يطرح موضوع "الخصوصية الحضارية" إشكالا عضالا لدى كل المهتمين بقضايا الأمة العربية والإسلامية في المرحلة الراهنة، والتي تتموقع أسفل هرم الحضارة الإنسانية الحديثة، ومن المعلوم أن مشروع النهضة العربية والإسلامية هو هم كبير لكل من ينتمي للذات الحضارية الإسلامية، ويؤمن بجدارة الرسالة التنويرية للإسلام وقدرتها على قيادة البشرية نحو بر السلام الدائم ورفاهية الإنسانية، شريطة أن تراجَع المنظومة الفقهية التي بدأت تتشكل حول جوهر الإسلام الناصع، منذ عصر ما بعد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا.

هذه النهضة المنشودة ليست مقابِلا لانهيار مكونات العالم الأخرى، وهي ليست بالضرورة تحالفا عدوانيا ضد الكتل الحضارية المخالِفة، ذلك أن حقيقة الإسلام -كما يدركها المنصفون- هي دعوة لرقي الإنسان ورفاهيته، وسعادته في عالمِه الدنيوي، وما بعد الدنيوي، وهنا يتحتم على حاملي هذا الهم أن يعيدوا ثقة الغرب في الإسلام، ويثبتوا براءته من المنتحلين، والمتطرفين، ومن دعاة "نسف الآخر الحضاري"، وهي مهمة شاقة وطويلة.

إن لكل كتلة حضارية - الحضارة العربية والإسلامية أنموذجا - مجموعةً من الخصائص الفريدة، وبعض الخصائص الأخرى المشتركة، وإن استثمار الخصائص الفريدة لأنموذجنا الحضاري هو بداية المسار نحو نهضة شاملة تعيدنا إلى سكة التاريخ، لنبدأ مرحلة الفاعلية تمهيدا للمنافسة على مراكز الريادة، والتي بات شرطها الأول اليوم امتلاكُ مقومات حضارية صلبة ومرنة في آن واحد، قادرة على إيصال الإنسان إلى أعلى ما يطمح إليه، وهذا ما تمتاز به الرسالة التنويرية للإسلام، النقية من شوائب الإجتهاد الدخيل، الذي أغرق العالم العربي والإسلامي في ظلمات التخلف والفقر بسبب تعنت أصحابه وجهلهم بقوانين العمران البشري.

إضافةً إلى ذلك، من المعلوم، أنّ الحديث عن ذات حضارية متفردة، دون تقبل اختلاف الذوات الحضارية المغايرة، هو ضيق أفق وانغلاق على الذات يُورث مزيدا من التخلف والعجز، وهو حال نموذجنا الحضاري، منذ سقوط الدولة العثمانية، مرورا بنكبة فلسطين، وانتهاء بالحروب البينية اللاحقة، والتي كان دافع أغلبها هو التعصب للرأي، ورفض الإختلاف.

إنّ الأجيال التي كرست تخلُف وهشاشة نموذجنا الحضاري، راحلة، بحكم حتمية السيرورة التاريخية، وسيأتي الدور على أجيال جديدة لتكون أمام خيارين:

  • إما مواصلة الإنحدار، نحو ما بعد القاع، وهو خيار لا يتطلب جهدا، إذ يكفي أن يظل الواقع على ماهو عليه، من عقليات خرافية سائدة، واستبداد سياسي، وفكر ميت، وسلوك غير حضاري، واتكالية، وانحدار أخلاقي.
  • وإما المبادرة لوضع حد لواقعِنا الكارثي، الذي طال أمده، والشروع في صناعة نهضة حضارية شاملة، ومرِنة، يكون الوعي أولى خطواتها، متبوعا بمراجعة شاملة للموروث الثقافي، ثم الانطلاق في معالجة الأزمات الحضارية الكبرى بما تتطلبه من مشاريع عملية: أزمة الفكر، الفاعلية، التخلف، السلوك، وأزمة الأخلاق.

هذه الأزمات الخمس -حسب الدكتور طارق السويدان- هي جوهر المشكل، ولا يمكن الإنطلاق نحو ريادة حضارية بدون معالجتها بواقعية ومرونة وتجرد، خصوصا وأن المنافسة اليوم هي مع حضارة قطعت أشواطا ضوئية في كل المجالات، سواء بفعل عوامل حضارية نمتلك مثلَها، أو بفعلِ أخرى تتطلب تراكما طويلا وعملا مضنيا لاكتسابها.