يشكّل العقل والعواطف والانفعالات جانبين مهمّين من جوانب حياتنا المعنوية، وبينهما نقاط التقاء ونقاط مفاصلة، والعمل على إيجاد نوع من التوازن بينهما، بحيث لا يطغى جانب على آخر، مطلب ديني، وضرورة حياتية وإنسانية، وهو نوع من الابتلاء علينا أن ننجح فيه في هذه الحياة.

التوازن بين العقل والعاطفة أساس توازن الشخصية ونضجها واعتدالها، نمو هذين الجانبين وتوزعهما متباينان: ففي مرحلة الطفولة تكون السيطرة والتحكم الأكبر في شخصية الإنسان للعواطف والغرائز والانفعالات، وهو ما يجعل الطفل سريع الغضب مثلا وسريع الرضا، لأنه يفتقد إلى التوازن لعدم اكتمال قدراته العقلية التي تمكّنه من السيطرة على انفعالاته وإيقافها إلى حد مقبول.

أما في مرحلة المراهقة فيكون النمو للأفكار والمفاهيم والقدرات العقلية بشكل سريع، لكن ليس بالشكل والحد الكافي والمرجو؛ كون عامل السن يفعل فعله، فالإنسان كلما تقدّم في العمر ازداد نضجا، وبالضرورة يزداد اتزانا واعتدالا في سلوكه وتصرفاته وانفعالاته، حتى يصل مرحلة الشيخوخة التي يتسرب إليها الملل وتذوي فيها العواطف وتتراجع.

قبل أن نستعرض رباعية التوازن بين العقل والعاطفة، علينا أن ندرك الأمور التالية:

1- كون العقل والعاطفة يشكلان شيئين متقابلين، يجعل حدوث شيء من المد والجزر بينهما ونوع من التأثير والتأثر أمرا طبيعيا، وإنّ عواطفنا تنقسم إلى قسمين وهذا بحسب الدكتور عبد الكريم بكار: "عواطف إيجابية مثل: عاطفة الحب والرحمة والفرح والسرور وحب معالي الأمور وفضائلها، وعواطف سلبية مثل :الحقد والغضب والكراهية والخوف والحزن والأنانية والكبر،.. وهذه وتلك تتأثر تأثرا بالغًا بالأفكار وبأحكام العقل عامة".

تنشأ كثير من العواطف وتنمو نتيجة احتكاك العقل بالواقع، أي نتيجة الخبرات وتراكمها التي يجنيها الشخص أثناء احتكاكه بالواقع، فمثلا حبك لشخص ما قد يكون بسبب ما يتمتع به من صفات جميلة وأخلاق راقية، وربما بسبب موقف وقف فيه بالحق إلى جانبك، وربما خدمة قدمها لك، وكلما زاد ثناء الناس عليه ازداد حبك له، ويمكن أن تكون عاطفة البغض والكره قريبة من ذلك.

2 - العواطف النشطة والمتحركة تشوش على العقل فلا يعمل عمله، بل تصبح أحكامه بعيدة عن الموضوعية والإنصاف؛ لهذا حذرنا القرآن الكريم من الوقوع في شرك تحكّم العواطف عند إصدار الأحكام فقال - سبحانه - ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ﴾[المائدة: 8]، وهذا توجيه مهمّ يقترب منه عمر بن الخطاب في تعامله تجاه قاتل أخيه "زيد بن الخطاب" بعدما أسلم، حين أمره عمر بأن يغرب عن وجهه، ففهم الرجل أن عمر لا يرتاح له، وربما يظلمه ويحرمه من حقوقه، وهذا ما دعاه إلى التساؤل عن إمكانية حرمانه من حقوقه؛ لأن الخليفة غير مرتاح له فقال يا أمير المؤمنين: وهل بغضك لي يجعلك تمنعني حقي؟ فقال عمر :لا. بمعنى أن بغض عمر للرجل لا يعني بحال حرمانه حقه الذي كفلته له الدولة. فقال لعمر: إنما تبكي على الحب النساء. هذا يعني أن عمر لم يفسح المجال لعواطفه، رغم حبه الشديد لأخيه زيد وتألّمه الشديد عند استشهاده الذي قد يدفعه إلى الانتقام ، لم يفسح لها لاختطاف قراره والتأثير فيه في ذلك الموقف.

وقد تسخّر العواطفُ العقلَ لخدمتها، وتتخذ منه لافتة لتوفير غطاء منطقي لها، كالشاعر الذي بالغ في مدح أحدهم، وبعد مدة هجاء ذلك الممدوح هجاءً مقذعاً، فعندما كُلّم في ذلك التناقض الواضح قال: رضيتُ فقلت أحسن ما أعلم، وغضبتُ فقلت أسوأ ما أعلم. بمعنى أن الشاعر اعتمد في الحالتين على بعض أحكام العقل بل سخّر العقل كغطاء منطقي لتمرير ذلك.

3- ما دمنا على قيد الحياة علينا أن ندرك أننا سنظل نكتسب المزيد من الخبرات الجديدة، وستتهاوى المزيد من الأغطية والأغشية التي تحجبنا عن الرؤية الصحيحة؛ " لأن العقل البشري لا يكتشف الحقائق دفعة واحدة، وإنما على سبيل التدرج "كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار. وهذا يعني أن مما يساعدنا على التوازن بين العقل والعاطفة الرباعية الآتية:

رباعية التوازن بين العقل والعاطفة

1- الاحتفاظ بنهايات مفتوحة في رؤيتنا للأشياء والقضايا المختلفة، بمعنى أن تترك لك خط رجعة بعيدا عن الخيار الأوحد، وهو ما ينعكس إيجابيا على عواطفك نحو تلك الأشياء. وهذا ما وجهنا إليه الرسول صلى الله عليه بقوله: (أحببت حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما). (فهونا ما) في الحالتين هي النهايات المفتوحة؛ كي لا نغرق في بحار الحسرة والألم والملامة حين تتغير أحكام العقل تجاه أولئك الذين غالينا وبالغنا في حبهم أو بغضهم.

2- لا تستسلم للعواطف، فالإسلام أعطانا رؤية متقدمة في علاقتنا مع العواطف، وهي رؤية تقوم على عدم الاستسلام للعواطف والرضوخ لها، وكأنها أمر إجباري لا فكاك منه كما يظن البعض، لكنها في الحقيقة شيء يمكن التحكم به وتطويعه وتوجيهه على نحو راشد وفق هدي الشرع وأحكام العقل. وهذا لا يقتصر على عواطفنا الشخصية، بل يتعداه إلى عواطف الآخرين التي يستطيع الإنسان تنميتها كعاطفة الحب مثلاً تجاه الآخرين نستطيع أن ننميها بدليل هذا الحديث الذي يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، فالمرء يستطيع أن ينمي عاطفة الحب لديه إلى مرتبة أن يحب للمسلمين من الخير والصلاح والنجاح ما يحبه لنفسه. كما يستطيع تنمية عاطفة الحب تجاه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصبح أحب إليه كما فعل عمر بن الخطاب عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال في البداية نعم إلا من نفسي، ثم راجع إيمانه وعواطفه فقال: (لأنت الآن أحب إليّ من نفسي) فقال عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر. 

يستطيع المسلم أن يتحكّم بعواطفه، فحين يصبر ويدفع بالتي هي أحسن تتغيّر عواطف الآخرين نحوه من مشاعر وعواطف معادية إلى عواطف مسالمة تتمثّل في الأخوة والمحبة والصداقة. وهو ما تعنيه الآية الكريمة (ادفَع بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذي بَينَكَ وَبَينَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ﴾[فصلت: 34]. والمسلم مطالب بتوزيع مشاعره وعواطفه وفق هدي الشريعة السمحاء ما دامت حياته كلها لله وهو ما أراده - سبحانه - بقوله عن أهل الصلاح ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينٌَ﴾[المائدة: 54]. فالإيمان يجعل المشاعر التي يحملها المسلم تجاه أخيه المسلم هي مشاعر الحب والتذلل والتواضع والألفة، والمشاعر التي يحملها تجاه الكافرين هي مشاعر العزة والأنفة والقوة، وإذا لم يجدها أي مسلم هكذا فليراجع إيمانه، ويسعى لاكتساب تلك المشاعر من البداية.

3- عليك أن تخوض المعركة الحقيقية بين العقل والعواطف والانفعالات السلبية وأمراضها: كالحقد والغضب والكبر والشح والأنانية وما شابهها مما يؤثر على توازن الشخصية، ويناقض أحكام العقل، ويذكي الصراعات والانقسامات.

 "للتخلّص من هذه الأمراض يحتاج إلى مجاهدة قوية، وإلى قوة الصلة بالله وتعليق القلب به وبالدار الآخرة، ومحاولة التحلّي بأضدادها" كما يقول الدكتور بكار، فهو من خلال ذلك يكتسب طباع وعادات جديدة ونبيلة. هذا يتطلب مواجهة الغضب بالهدوء وكظم الغيظ، والكبر بالتواضع، والشح بالكرم، واليأس بالأمل... ونحن بذلك نرجو النجاة من عواقب وآثام تلك الأمراض، وطالبين الأجر والثواب الكبير - من الله- المترتّب على التحلّي بتلك الفضائل.

حين يتمكن المسلم من التغلب على المشاعر والعواطف والانفعالات السلبية، يكتسب نوعا جديدا من التوازن في شخصيته، هذا التوازن هو توازن بين العقل والعواطف الإيجابية، مما يعني ارتقاء شخصية المسلم بالابتعاد عن أوحال الرذائل الخلقية والنفسية.

4- أن تعرف وتستخدم كلاً من العقل والعاطفة في مجاله الصحيح، فالعقل هو الدليل الذي يكتشف الواقع ويقيّم الحدث، ويحدد بالتالي رد الفعل المناسب. والعقل هو الذي يرسم الخطط ويضع البرامج ويصوغ المنهج النقدي، بينما العواطف توفّر الوقود والمحرك والدافع والحماسة. يقول الدكتور بكار:" العواطف عمياء لا تملك القدرة على الاختيار والتمييز، والعقل راسم خطط وخرائط عليه أن يوجهها الوجه الصحيحة" .

وحتى يقوم العقل بكل تلك المهام علينا أن نحيّد عنه - قدر الإمكان - العواطف والميول الشخصية والأهواء والرغبات بمختلف إيحاءاتها وإشاراتها، وهي من أعوص المشاكل التي يواجهها الإنسان في هذا الشأن.

رغم أهمية العواطف في حياتنا، لكنها تعد جزء مهم من توازن الشخصية، فمن المهم أن ألا نجعلها تسيطر على عقولنا فتتحكم بها وبالتالي تختطف قراراتها وأحكامها، ومن المهم ألا نجمّدها ونجعلها تبدو باردة؛ لأننا سنفقد أداة مهمة من أدوات التواصل مع الآخرين. ومن الحيوي والمهم أن نروّي العواطف الخيّرة ونرعاها باستمرار لتبقى نشطة ومتفاعلة، من خلال سقيها بماء العمل الصالح بمعانيه الواسعة. وأخيرا فإن "توازن الشخصية ملمح من أجمل ملامحها؛ لأنه يحمل التناسق والتكامل والاعتدال والمنطقية، وهي أمور تزيّن الأشخاص وحدهم، لكنها تزيّن الوجود بأسره".

إلى كل من يبحث عن التوازن والاعتدال والمنطقية والنضج، لا خيار أمامك سوى تحقيق معادلة التوازن بين العقل والعاطفة من خلال كل ما ذكرنا؛ لتصنع من نفسك شخصية متوازنة ناضجة، وبالتالي تستطيع المساهمة في نهضة الأمة؛ لأنك حققت تقدما شخصيا ونصرا ميدانيا على صعيدك الداخلي وهو ما يصبّ في المحصلة النهائية في مصلحة تقدّم الأمة ونهضتها.