عدد من الأستاذة والباحثين في كبريات كليات العلوم الإدارية الامريكية أصدروا دراسة تحليلية لواقع الاقتصاد الأمريكي، خلصت دراستهم إلى أن العام 2019 شهد تراجعا ملحوظا في نمو الاقتصاد الأمريكي؛ وأن العقوبات التجارية التي اتخذها الرئيس ترامب ضد إيران والصين (وتلك التي لوح بها في وقت ما ضد تركيا، والتي تعرضت لها الهند جراء علاقاتها التجارية مع إيران) أثرت سلبا على الاقتصاد الأمريكي. ختمت الدراسة برسالة قوية للرئيس ترامب مفادها " أن شيفرة النجاح في عالم اليوم هي التعاون بين الأمم؛ فحاجتنا لاستثمارات وموارد الدول لا تقل عن حاجتهم لمنتجاتنا وتقنياتنا".
هذه الروح الرافضة لسياسة الرئيس لا تعد غريبة على المؤسسة الأكاديمية الأمريكية؛ فقد ظلت تحتفظ باستقلالية مطلقة وتتمتع بمنهج مستقل في التفكير والتقييم، حتى أن مؤسسة الرئاسة (ومؤسسات الدولة الأخرى) ظلت تنظر بإيجابية لهذه الاستقلالية؛ فهي توفر مصدرا مستقلا للمعلومة ووسيلة فعالة لقياس الرأي وتلمس الموقف المخالف. بل ان المؤسسات الحكومية تقوم بتمويل هذه الدراسات والبحوث الأكاديمية وتستهدي وتسترشد بها، وإن جاءت مخالفة ورافضة لسياسات الرئيس.
مثل سوق العقار الأمريكي أحد الوجهات المفضلة لدى صغار المستثمرين الصينيين. فالإنخفاض الحاد في أسعار الوحدات السكنية في أعقاب أزمة 2008 مثل فرصة ذهبية ودفع مئات الآلاف منهم لاستثمار مدخراتهم في شراء تلك العقارات منخفضة الثمن، مراهنين على التوقعات متوسطة وبعيدة الأمد والتي أشارت حينها أن الأسعار لابد لها من الصعود (وقد كان). منذ ذلك التاريخ نشطت ظاهرة شراء العقارات من قبل الصينيين في مختلف المدن الأمريكية (لوس أنجلس؛ هيوستن، سانفرانسيسكو، أوستن، دالاس، فينيكس، شيكاغو، لاس فيغاس،...)؛ بل إن هذه الشهية المفتوحة ساهمت في زيادة الأسعار السنوية Annual Appreciation Rate، الشيء الذي سرع من وتيرة تعافي الاقتصاد الأمريكي.
بيد أن العام 2019 شهد تدهورا ملحوظا في هذه النسبة، للحد الذي جعل الأسعار شبه ثابتة مقارنة بالعام السابق في بعض المدن مثل هيوستن، وبحسب الدراسة فإن قلق المستثمر الصيني من مستقبل العلاقات التجارية بين الصين وأمريكا (إثر العقوبات التجارية التي بدأت إدارة ترامب تلوح بها منذ العام 2018) أفقده شهية الاستثمار في سوق العقار، الأمر الذي أثر على معادلة العرض والطلب Supply and Demand ونتج عن ذلك تباطؤ في الزيادة السنوية للأسعار.
إن الهيمنة المطلقة التي كانت تتيح للإدارة الأمريكية فرض العقوبات على الدول والمؤسسات لم تعد موجودة على أرض الواقع بنمطها القديم.
أما كبار المستثمرين الصينيين (بما فيهم الحكومة الصينية) فبصمتهم في الاقتصاد الأمريكي حاضرة أيضا، فهم يهيمنون عن سوق السندات الأمريكية التي يصدرها الاحتياطي الفيدرالي، فإذا كانت روسيا قد سيلت جزءا مقدرا من احتياطاتها من العملة وشهادات الاستثمار الأمريكية واستبدلتها بشراء الدهب؛ فإن الصين ما تزال تحتفظ بمبالغ ضخمة من العملة الأمريكية.
قمت بزيارة جامعة كارنيجي ميلون في ولاية بنسلفانيا، وهي من أعرق الجامعات في الشرق الأمريكي (الايفي ليق سكولز). ورغم أن القبول لها متاح للجميع؛ إلا أن رسومها الدراسية الباهظة تجعلها شبه محتكرة على أبناء النخب الثرية. إحدى الظواهر التي تسترعي انتباه الزائر لمقر الجامعة في بيتسبرغ؛ هي الأعداد المهولة للطلاب الأجانب؛ حتى إنك لا تكاد تلحظ وجودا للطلاب الأمريكيين (البيض، الأفارقة، وحتى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين). بعد تطوافي على ساحات الجامعة وقاعات الدرس، والمراكز التجارية وحتى ملاعب كرة القدم؛ انتابني إحساس أنني أتجول في إحدى الجامعات الصينية (وذلك للعدد المهول من الطلاب الصينيين مع وجود ملحوظ للطلاب الهنود وعدد قليل من الطلاب العرب ميسوري الحال والدين لا تمثل لهم رسومها الباهظة عقبة، بل أن الجامعة كثيرا ما تخفف لهم من شروط القبول طمعا في تبرعات دولهم السخية). غني عن الذكر أن هؤلاء الطلاب الأجانب لا يحركون اقتصاد الجامعة فقط من خلال مصاريف الدراسة الباهظة التي يدفعونها؛ بل إنهم يوفرون فرص عمل للآلاف من سكان مدينة بيتسبرغ وما جاورها من المدن.
دعونا الآن ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة؛ تشير التقارير أن الأداء الفصلي لعدد من كبريات الشركات الأمريكية شهد تراجعا. فمبيعات ستاربكس وابل ونايكي شهدت تراجعا كبيرا في السوق الصيني بسبب النظرة السلبية للمستهلك الصيني والعقبات التي بدأت تفرضها الحكومة الصينية على الشركات الأمريكية. وغني عن القول أن السوق الصيني يشكل أهم الأسواق لهذه الشركات؛ وذلك للشعبية الكبيرة لمنتجاتها في الصين، وهذه إشارة هامة أن الصين لم تعد تمثل مصدرا للعمالة الرخيصة، فهي تعد اليوم سوقا شرها يلتهم المنتجات والماركات الأمريكية، على صعيد آخر، مني منتجو فول الصويا في أمريكا بخسائر فادحة هذا العام؛ ذلك أن أهم أسواقهم (الصين) فرضت عليهم رسومًا إضافية مما أفقدهم التنافسية.
عند الربط بين الدراسة التي افتتحنا بها المقال، والمشاهدات التي وردت يمكن التوصل إلى نفس النتيجة "الاقتصاد الأمريكي لم يعد مستقلا عن نظيره الصيني". إن الهيمنة المطلقة التي كانت تتيح للإدارة الأمريكية فرض العقوبات على الدول والمؤسسات لم تعد موجودة على أرض الواقع بنمطها القديم. لا شك أن التفوق الاقتصادي والعسكري الأمريكي مازال قائما مما يمكن الرئيس ترامب من معاقبة الصين وفرض عقوبات على غيرها من الدول؛ لكن هذه العقوبات ستكون باهظة الثمن بل ومؤثرة على المواطن الأمريكي.