إنّ الشائع لدى عامة الناس أنّ المخ البشري هو المسؤول عن كل الوظائف التي يقوم بها الجسم بداية من الحركة والأعمال اليومية إلى التفكير وتخزين المعلومات، لكن البحث عن خصائصه وطريقة عمله غاب عنهم، فإذا كان المخ والدماغ البشري مصدر وأساس كل عمليات الجسم وهو أساس التعلم فكيف نتعلم؟ ولماذا يتعلم بعضنا بسهولة أكثر من الآخر؟ تلك هي الأسئلة التي أبهرتني وتلك هي الأسئلة التي لا تزال تراود كثيرا من الناس، ولم يحصلوا بعد على تحليل فيزيائي للمخ وكيف يعمل.

الأسئلة كثيرة في هذا الجانب فكثيرا ما كنا نسمع أنّ فلانا ذاكرته قوية عن ذاك، وأنّ هذا يتذكر أفضل من هذا، فهل هذا صحيح فعلا؟ وإن كان صحيحا فهل الله سبحانه وتعالى فرق بين خلقه في القدرات -حاشا أن يكون ذلك من رب العزة- الله سبحانه وتعالى، قد خلق الإنسان في أحسن تقويم وقد ساوى بين عباده في ذلك؛ فلم يجعل تفريقا بين عربي وأعجمي، ولا بين ذكر وأنثى، فالمتمعن في الأمر يجد حقا أنّ هناك أمرا عجيبا في بنية المخ جعلت هذه الفوارق تظهر بين شخص وآخر فما هي يا ترى؟

البحث عن حقيقة الأمر جعلني أبحث يمينا وشمالا بين رفوف الكتب العربية منها والأجنبية وبين سلاسل الحصص والبرامج الخاصة بأطباء الأعصاب والعقل، في حين غرة توقفت عند مقطع مرئي لأحد باحثات المخ في جامعة بريتيش كلومبيا بكندا تدعى "لارا بويد" تفسر طريقة عمل المخ وكيف يمكن تغيير السلوك بوساطة ممارسة السلوك نفسه!

إنّ دراسة المخ من أهم محاولات فهم تكوين الإنسان، وفهم الخصائص التي تجعلنا على ما نحن عليه، إنّ ما نعرفه عن المخ يتغير بشكل سريع يخطف الأنفاس ومعظم ما اعتقدنا أننا نعرفه عن المخ اتضح أنه غير صحيح أو غير كامل، وبعض تلك المغالطات أكثر بديهية ووضوحا من غيرها. على سبيل المثال كنا نعتقد أنّ المخ لا يتغير بعد مرحلة الطفولة، وما أبعد ذلك عن الحقيقة، مغالطة أخرى هي أنّ الإنسان يمكنه استخدام أجزاء معينة من مخه في كل موقف، وأنه ساكن عندما لا نقوم بأية أنشطة، وما اتضح لي هو أّن العقل ناشط دوما حتى عندما يكون الشخص مسترخيا لا يفعل شيئا، وكان للتقدم العلمي والتقني (كتقنية أشعة الرنين المغناطيسي) الفضل في تمكيننا من تلك الاكتشافات.

ولعل أكثر تلك الاكتشافات إبهارا هو أنّ تفاصيل مخك تتغير في كل مرة تتعلم فيها مهارة جديدة أو معلومة جديدة وهذا ما يطلق عليه علماء المخ المرونة العصبية، وقد كنا من سنوات نعتقد أنّ التغيير الوحيد الذي يحدث في المخ بعد سن البلوغ هو تغيير سلبي، كفقدان خلايا المخ مع التقدم في العمر والشيخوخة، أو تلف تلك الخلايا نتيجة لجلطات الدماغ، ولكن البحث الحديث أرشدنا الى أنّ المخ يتغير باستمرار نتيجة سلوكياتنا المختلفة، وأنّ التغيير ليس مقيدا بعمر وأنّ التغييرات تحدث في المخ طوال الوقت، وتلك كلها اكتشافات مذهلة وسارة، فإعادة تنظيم المخ لنفسه يساعد على التعافي بعد تلف بعض خلايا المخ، والمفتاح في كل ذلك هو المرونة العصبية فما هي ملامحها؟

كيف يتغير المخ؟

يستطيع المخ أن يتغير بثلاث طرائق؛ أولها التغيير الكيميائي؛ فالمخ يؤدي وظائفه عن طريق نقل الإشارات الكيميائية بين خلاياه؛ الخلايا العصبية مما يؤدي إلى سلسلة من الاستجابات، ولدعم التعليم يمكن لمخك أن يكثف من قوة الإشارات الكيميائية ودفعها بين الخلايا العصبية، ولأنّ هذا التغيير قد يحدث بسرعة كبيرة، يدعم ذلك الذاكرة قصيرة المدى ويحفزها لإنجاز المهام والمهارات الحركية.

والطريقة الثانية؛ يتغير فيها مخك ليواكب التعليم ويدعمه بتغيير هيكله عن طريق تغيير الروابط بين الخلايا العصبية، وفي هذه الحالة يتغير شكل مخك وتكوينه لاحقا، ويتطلب هذا التغيير بعضا من الوقت، وهذه التغييرات مرتبطة بالذاكرة طويلة المدى، وتتجسد في التحسن الدائم في مهارة حركية. وسأعطيكم مثالا؛ لقد جربنا جميعا محاولة إتقان مهارة حركية كلعب البيانو أو أي لعبة أخرى وقد تحس أنك تتحسن في الأداء تدريجيا أثناء محاولة تعلمك الأولى، وتعتقد أنك قد تمكنت من المهارة وربما تعود في اليوم التالي لتكتشف بدهشة أنك فقدت معظم المهارات التي تعلمتها، فماذا حدث؟ حسنا، لقد استطاع مخك تكثيف الإشارات الكيميائية ونقلها بين الخلايا العصبية بشكل مؤقت، ولكن لسبب ما لم يؤد ذلك التكثيف لتغيير هيكل المخ المطلوب لإحداث تغييرات بالذاكرة طويلة المدى التي تحتاج الوقت للتغيير، وبهذا ترى أنّ ذاكرة المدى القصير لا تعكس التعلم، فالتغييرات الهيكلية في تكوين المخ هي التي تدعم التعلم، ويمكن للتغييرات الهيكلية أن تؤدي إلى شبكة تواصل بين قطاعات المخ، فمن يتعلمون القراءة بطريقة "البرايل" لديهم قطاعات حسية أكبر في المخ للتحكم باليد مقارنة بمن لا يقرؤون بطريقة "البرايل" ومركز حركة اليد اليمنى إذا كنت تكتب باليمنى أكبر في نص المخ الأيسر المتحكم في اليد اليمنى مقارنة بحجم مركز تحكم اليد اليسرى، وتشير الأبحاث إلى أنّ سائقي سيارات الأجرة بلندن يتمتعون بمراكز مخ أكبر للمسح الجغرافي والمكاني، لأنهم يضطرون لحفظ خريطة لندن كجزء من إجراءات إجازتهم لرخصة القيادة.

ثالث طريقة يتغير فيها المخ ليواكب التعلم ويدعمه هي بتغيير وظائفه وتعديلها، فعندما تستخدم قطاعات المخ المختلفة تصبح أكثر قابلية للاستثارة، وعند زيادة المخ من قابلية تلك القطاعات الاستثارية يتغير ويعدل شبكته لدعم ذلك التغير في المرونة العصبية، ويختار متى وكيف يتم تفعيل القطاعات المختلفة، وهكذا يغير المخ نفسه عن طريق التغيير الكيميائي والوظيفي، وقد تحدث تلك التغييرات كل على حدة، أو تحدث في تناغم وتوافق، وكل هذه التغييرات تدعم التعليم.

هل رأيت فعلا الآن كم أنّ مخك مذهل لقدراته المتمثلة في المرونة العصبية؟ فلماذا لا تستطيع تعلم ما تريد تعلمه؟ ولماذا يتعثر الأطفال أحيانا بالدراسة؟ ولماذا ننسى بتقدم العمر؟ ولماذا لا يتعافى الناس كليا بعد تلف المخ؟

ما الذي يعيق المرونة العصبية وكيف يمكن تيسيرها؟

كما ذكرت "لارا" في مقطعها التعريفي أنّ محرك المرونة العصبية الأول هو السلوك، والمشكلة أنّ جرعات تكرار السلوك المطلوبة لتعلم مهارة جديدة كبيرة جدا، فكيف يمكن تيسير تلك الجرعات الكبيرة من السلوك؟ هذه هي المشكلة الكبيرة، ولكننا نعرف أنه ليس هناك دواء يمكنك أن تأخده لتقوية المرونة العصبية فمحرك التغيير الأول هو السلوك، وليس هناك ماهو أكثر فعالية من الممارسة لنتعلم، ومحصلة النقاش الطويل هي أنه سيتوجب عليك أن تقوم بالعمل كله، وقد أظهرت الأبحاث أنه كلما ازدادت التحديات في وجه الممارسة وكلما كان الأمر صعبا على الشخص كانت نتائج التعلم أفضل، وكان التغيير الهيكلي للمخ أكبر وأقوى.

والمرونة العصبية سلاح مزدوج، فهي يمكن أن تكون إيجابية في حالة تعلم مهارات جديدة، ولكن يمكنها أن تكون سلبية كنسيان شيء قد تعلمته من قبل إذا لم تداوم على السلوك أو إدمان شيء بعد التعود عليه، فمخك قابل للمرونة العصبية للغاية وهو يتشكل بكل السلوكيات التي تفعلها، ولكنه كذلك بما لا تفعله أيضا، ومما تعلمته من الأبحاث أنه ليس هناك حل واحد يمكن تطبيقه مع كل البشر وليس هناك وصفة للتعلم، فخذ مثلا الاعتقاد الشائع أنه يلزم لتعلم أية مهارة وإتقانها قضاء 10 آلاف ساعة في ممارستها، يمكنني أن أؤكد لك أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فسيحتاج بعضنا لأكثر من ذلك، وسيحتاج بعضنا لأقل من ذلك، وعليه فإنّ تشكيل المخ المرن شيء فريد بتفرد كل شخص، ولا يوجد حل واحد يمكن تطبيقه مع كل الأشخاص، وهذا الإدراك أجبر العلماء على ابتكار "الطب الشخصي" وهو يعتمد على الوصول إلى نتائج علاجية عن طريق تخصيص العلاج لكل شخص على حسب تكوينه الجيني، وليس على حسب نوع المرض.

وما تعلمته من دراسة المرونة العصبية ينطبق على الجميع، فسلوكيات الحياة اليومية هامة، وكل منها يغير مخك، ولا يجب تفصيل الطب ليناسب المريض فحسب، بل يجب تفصيل التعليم أيضا، فتفرد المخ سيؤثر في الطالب والمعلم، ويساعدنا هذا المفهوم في فهم سبب ازدهار وانتعاش بعض الطلاب في مناخ التعليم التقليدي بينما يتعثر بعضهم؟ وكيف أنّ بعض الطلاب يبدعون في تخصص الرياضيات والحاسبات المعقدة في حين يفشل الآخرون وهكذا دواليك في كل التخصصات الأخرى كالطب والهندسة والإنسانيات... إلخ؛ ولماذا يتعلم بعضنا بعض اللغات بسهولة أكثر من غيره؟ بينما يبدع بعضنا في الألعاب الرياضية أكثر من الآخرين.

لذا فنصيحتنا هي أن تقوم بتكرار السلوكيات التي ترى أنها مفيدة لمخك وأن تكسر العادات والسلوكيات الضارة، وتمارس السلوكيات الصحيحة، فالتعلم يتوقف على فعل ما يحتاجه مخك وأتمنى أن تدرك كم هو مذهل ذلك المخ الذي تمتلكه، وأنّ مخك في تغير مستمر تشكله سلوكياتك والأحداث من حولك، وأن تدرك أنّ كل شيء تفعله وكل شيء تقابله وكل شيء تختلط به يغير مخك، وأنّ ذلك قد يكون للخير أو للضرر فعندما تغادر المكان اليوم اذهب وابن المخ الذي تريده.