تجديد الدين هو الرجوع إلى بساطة الحق وإلى القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية، القيّم الفطرية وتجريدها من الغواشي التاريخية، اللغوية والعُرفية، أما لماذا علينا أن نجدد الدين؟!

لأنّ الجمود في الدين ضار كما هو ضار على أي جانب من جوانب النشاط الإنساني، فهو يقضي على الذات المبدعة ويسدد المنافع الجديدة للإقدام الروحاني، أي جمود في الدين يجعل الحياة تتقدم عليه وتتجاوزه.

وهذا ما حدث مع الدين الإسلامي تقدمت الحياة بينما أبناء الدين يعجزون عن تجديده ويغرقون بين خلاف النقل مع العقل وبين تصوف يقطع صلة الإنسان بالأرض ويعجزه عن القيام بمهمته التي خُلق لأجلها، وكانت النتيجة تعطيل الفكر، حينما يتعطَّل فِكْر شعب، تتعطل طاقات أبنائه العقلية ويصابون بالإنهزام النفسي الذي يقعدهم عن الحراك.

ولهذا لجأ محمد إقبال إلى الفكر الصوفي وصاغه بطريقة جديدة تعيد إحياء العقل وتجدد الدين وتدخل الأمة في دورة حضارية جديدة، فالصوفي يؤمن بمبدأ " التخلية قبل التحلية"، ويقصد به أن يبدأ المريد بتطهير نفسه أولاً من كل العلائق والشوائب التي تربِطه بالمادة، وبملذات الحياة الدنيويَّة؛ تمهيداً لملئها وإعادة ملئها بكل الأخلاق المرضية التي تقربه من الله تعالى؛ على غرار الصوفية وصف إقبال المبدأ العقلي قائلاً: "إذن فلا بد - بدايةً - من "تطهير الفكر"، وبعد ذلك يصبح "تعمير الفكر" سهلاً." 

ولكن تطهير وتعمير الفكر لا يتم إلا عبر مراحل تبدأ بتطهير الضمير والإيمان بكلمة التوحيد " لا إله إلا الله"، فيتحول الفرد من عبد يخلد لأهوائه الأرضية إلى حر يوجهه ضميره ويرشده فكره فيبلغ معارج الروح السماوية.

كلمة التوحيد كما يصفها إقبال تجعلك تنهض من أعماق الحياة وتدرك أعماق الدين، وإذا أردت أن ترى أعماق الدين واضحة، فلا تنظر إليه إلا من أعماق الضمير، وإن لم تفعل، فدينك هو الجَبْر، ومثل هذا الدين لا يرضاه الله.

نعترف باختلال الخطاب الديني ولكن لا يمكن إلقاء اللوم على الخطاب الديني فقط، ما وصلنا إليه اليوم يمثل معادلة معقدة طرفها الأول الاستبداد والطرف الآخر الخطاب الديني الذي يقزم الفكر ويحول دون انطلاق ممكنات الإنسان، أزمة الخطاب الحقيقية تكمن في تقديم المجتمع على الفرد، فالخوف من مواجهة الاستبداد وفقدان الأمن بالإضافة إلى الرصيد التاريخي لثورات القرن الأول الهجري التي انتهت بفواجع، جعلهم يضحون بالفرد وحقوقه لأجل الجماعة و يقدمون خطاب الانسحاب من الحياة واللجوء للعبادة على خطاب خوض مغامرة الحياة وتحقيق التمكين الذي هو وعد الله لعباده المؤمنين، كل هذا كان بحثاً عن سكينة يفتقدونها في الواقع ومحاولة اللجوء لركن رشيد يلتجؤون إليه كلما ساءت الظروف.

ومن هنا ندرك أنّ مهمة تجديد الخطاب الديني تحتاج معرفة للسياق التاريخي لأحداث في الأمة أنتجت خطاب الانسحاب من الحياة وفي الوقت ذاته تقديم تصور عن كيفية تجديد الخطاب الديني، فالانتقاد دون تقديم حلول يعد ثرثرة لا جدوى منها.

نبدأ بالسياق التاريخي لأحداث الأمة، لا يمكن أن نفهم واقع اليوم دون دارسة السياق التاريخي لأحداث في الأمة أنتجت مفاهيم وسلوكيات تجعل المسلم يعيش في جفوة مع الواقع، يفر من تعقيده ولا يشتبك مع إشكالاته.

السياق التاريخي لأحداث واشتباكات مع سلطة غير شرعية تدعي بأنّ على رأسها خليفة الله ونائبه في الأرض، الخليفة الذي يستطيع إخفاء إرادته الاستبدادية وراء عصمته المزعومة باعتبار السلطان ظل الله في الأرض!

 الخليفة المستبد عطَّل دور الفقه في الحياة وأوقف مبدأ الحركة في الإسلام "الاجتهاد"، المبدأ الذي يعبر عن إمكانية التغيير على الدوام، ويمنع تحجر المجتمع وركوده، المبدأ الذي يجعل المجتمع قائماً على أرضية مهدها القرآن وجسدها النبي ﷺ، مجتمع يعيش حياة ذات طبيعة متجددة في جوهرها.

النتيجة لهذه الأحداث والاستبداد هو الخوف على الدين من الضياع والخوف من الفتنة فاندفع كثير للاستسلام وترك معترك الحياة، ونشأ مزاج يشجع على التوجه نحو عوالم أخرى يعيش فيها الفرد حالة من السكينة يفقدها في الواقع وبرزت الصوفية الزاهدة التي بدورها حجبت أنظار الناس عن إدراك جانب مهم في الإسلام باعتباره دستوراً اجتماعياً، يشجع المرء على خوض غمار الحياة ويطلب منه عمارة الأرض، وبهذا تركت دولة الإسلام في أيدي رجال تحت المستوى المتوسط من الناحية الفكرية، ولم يجد جماهير المسلمين الذين لا يشغلهم الفكر شخصيات أفضل من المتصوفة والزهاد حتى تتزعمهم وتقودهم، ذلك أنهم الأكثر أماناً وضماناً لعدم تكبد العناء في حال اتباعهم.

 

إذن ما الحل؟! كيف نوجه الجماهير ونحررها من الاتباع الأعمى للفكر الصوفي الذي يتخلل مجتمعاتنا حتى ولو سُميَّ بمسميات أخرى؟! بمعنى آخر كيف نجدد الدين والخطاب الديني؟!

 

للإجابة على هذا السؤال علينا إدراك الدورة الدينية، فالدين يبدأ روحاً...روحاً أخلاقية وإنسانية، بمرور الزمن تتحول هذه الروح إلى مؤسسات ودول ومساجد ومعابد وجيوش وتشريعات، ثم مع الأيام تتحول هذه المؤسسات إلى عبء على الروح التي أنتجتها فيحتاج الناس إلى تجديد؛ إما بدين جديد أو بإحياء أصول الدين القديم، فيما يُعرف بالدورة الدينية.

في الحالة الإسلامية نحن لا نتوقع ديناً جديداً، ولكننا نؤمن بضرورة التجديد، وقد بشرنا النبي ﷺ بأنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، فمن يقوم بمهمة تجديد الديني؟! أي تجديد الفكر الديني والخطاب الديني.

من يقوم بالمهمة؟!

الدين الإسلامي دين خاتم ودين عالمي، من هذا المنطلق لا توجد مؤسسة بحد ذاتها مسؤولة عن تجديد الدين ولا جهة مهمتها حفظ الدين، بل يتشارك كل من الداعية والمصلح والمفكر في عملية التجديد التي تتطلب الإلمام بحزمة من العلوم الشرعية والإنسانية والإدارية، هذا الإلمام يجعل المجدد يقدم خطابا موجها للإنسان وليس للفرد المسلم، الخطاب الإنساني الذي يترفع عن الهوية وعن التقوقع على الذات، الخطاب الذي يحقق معادلة الشهود الحضاري.

معادلة الشهود الحضاري لا تتحقق إلا بجانبين؛ الجانب الأول: فرد يتحرر من كل سلطة ولا يؤمن إلا بسلطة الضمير وسلطة وقدرة الإله في الكون، والجانب الثاني: مجموع الأفراد المؤمنين بالإله والذين يتعاملون مع الدين بقاعدة "لا يمكن فهم القرآن فهماً صحيحاً إلا إذا استشعر المؤمن كأن القرآن يتنزل عليه شخصياً كما كان يتنزل على النبي"، هذا التعامل مع الدين العالمي الخاتم وهذا الفهم لنصوص الدين يجعل الأفراد يدركون بأنّ الدين هو مجهود صادق لتصفية وعي الإنسان من كل شائبة تحول دون تحمل مسؤولية عمارة الأرض وبلوغ الرشد، الذي هو قمة وعي الإنسان واكتماله ونضجه، وصمّام الأمان من أوضاع التحلّل والفساد التي قد تؤول إليها حياة الأفراد والجماعات.

ومتى بلغت الأمة الرشد وتحرر الأفراد من كل سلطة سوى سلطة الضمير وسلطة الإله، تجدد الدين وتحققت معادلة الشهود الحضاري، وأصبحنا "شهداء على الناس".