تتسارع الأمم اليوم كلها نحو حجز موضع قدم في سباق الحضارات، فبعد أن شعر الإنسان الغربي بالتيه والضياع طيلة العصور الغربية الوسطى يوم كان للجهل باسم الميتافيزيقا سطوة نافذة، كافح بمرارة ليسترد حريته المسلوبة على جميع الأصعدة طيلة قرنين من الزمن، دفع خلال ذلك أثمانا باهظة واستطاع بها أن يبني حضارة تعبر عن ذاته وتطلعاته، بصرف النظر عن آليات ذلك والسبل.
ولأن الحضارة بطبعها تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا، فإن الحضارة الغربية هي الأخرى تجاوزت حدودها الجغرافية، بل هيمنت على أغلب المعمورة، و غزت الفلسفة الغربية الحداثية حياة الناس في شتى بقاع الأرض.
ولأن الإنسان دائم البحث عن ذاته عبر سؤال المعنى الذي هو سره الأعمق، سيبقى اختبار المعنى دائما هو أصعب ما تواجهه كل حضارة مهما أوغلت في تغييب الإنسان عنه، إذا ما أرادت طول المكوث في الصدارة.
لذلك يعيش الإنسان اليوم اختبارا عسيرا في بحثه عن المعنى الذي فقده تحت وطأة الحداثة الغربية المادية السائلة، ذلك أنه لا يزال يحتفظ في ذاكرته الجمعية التراكمية بتجربة غير حميدة مع سطوة الميتافيزيقا في تجليها الكهنوتي الكنسي، وهو اليوم يعيش نفس السطوة، ولكن في الوجهة المقابلة تماما، وفي كليهما غاب عن الإنسان جوهر المعنى الحقيقي.
إن الذين يسعون اليوم إلى الدفع بعجلات الحضارة إلى الأمام قدما، هم أمام تجربة حقيقية فريدة، لم يسبق لها في التاريخ مثيل إلا في فترات لا تكاد ترى في مسيرة الإنسان منذ وجد، إنها تجربة العودة به إلى وسط الطريق، لا في أقصى اليمين حيث سطوة الجهل ووأد العلم والعقل باسم الميتافيزيقا، ولا في أقصى اليسار حيث سطوة المادة وسعار الاستهلاك وثورة الغريزة باسم الحرية والحداثة.
كمسلمين نحن نؤمن أن الإسلام في ذاته قادر على ابتعاث حضارة لا تعجز عن تحقيق هذا، ولكننا في نفس الوقت كغيرنا من الشعوب و الأمم، تجري علينا سنن ونواميس لن نستطيع القفز عليها ولا الفكاك منها!
إن إيماننا بقدرة الإسلام على بعث تلك الحضارة لا يختلف عن إيمان ذلك التاجر بقدرة ذلك المصباح الكهربائي المركون في رف دكانه على الإضاءة، و لكن لن ينتظر أي أحد من المصباح نورا قبل أن يمده بأسباب الإضاءة مما هو معروف.
لعل أهم ما ينبغي الالتفات إليه في سؤال الحضارة اليوم، هو تلك الأسباب التي يحتاجها الإسلام (كفلسفة) حتى يتمكن الساعون به من استيعاب حضارة مادية عظيمة هيمنت على المشهد الحضاري لقرون، حولت الإنسان خلالها إلى بشر ذي بعد واحد يعيش ليستهلك ويستهلك ليعيش، ثم تجاوزها بقيمة مضافة تعيد للإنسان المعنى من جهة، و تأمنه من كابوس الظلام من جهة أخرى.
لست أدري ما إذا كان من نافلة القول التذكير بأن التنافس المادي والتكنولوجي لم يعد يمثل لإنسان اليوم قيمة تستحق الكثير من الالتفات فضلا عن أن يعتبرها قيمة مضافة، علاوة على ذلك نحن كمسلمين غير قادرين حتى على الاستيعاب فضلا عن التفكير في التجاوز في هذا المجال، ذلك أن الفجوة الحضارية بيننا أصبحت فلكية. إذن، انطلاقتنا لا ينبغي أن تكون في هذه الوجهة كمشروع حضاري منافس!
طبعا ليس معنى هذا إهماله أو إغفاله إنما هي استجابة طبيعية لواقع يفرض نفسه و فلسفة تبسط هيمنتها، وهي فوق كل ذلك من حيث الأصل ميزة لا تنظر إليها فلسفتنا الإسلامية كمنتهى وغاية ذات مدلول ومعنى يستحق أن يكون الهدف الأساس لحضارة كونية يكون الإنسان الخليفة مركزها.
إذن، نحن أمام سؤال حضاري عميق من شأنه أن يعيد بوصلة كل ما نحن بصدده من مشاريع وأفكار وسياسات وسلوكات بل و ذوقيات وجماليات.