مَن يُصدِّق أن كتاب "الفُتيا الحَمَويَّة"؛ لابن تيمية -ألَّفه بين الظهر والعصر؛ كما ذكر هذا ابنُ القيم وهو يُعدِّد كتُبَ شيخه؟! ومَن يُصدِّق أن كتاب "الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف"؛ لابن حجر العسقلاني -ألَّفه في ثلاثة أيام في حَلَب؛ كما ذكر هذا في آخر الكتاب؟ ومنَ يُصدِّق أن ألفية السُّيوطي نظمَها السُّيوطي في خمسة أيام؟ وقد كنت أعتقد أنه ألَّفها في سنوات، وهذا شيء يفوق الخيال! ومَن يُصدِّق أن ابنَ أبي الحديد نظم فصيحَ ثعلب، الذي يبلغ ثمانمائة بيت، في يوم واحد، وهذا أعجب مِن خبر السيوطي؟ ومَن يُصدِّق أن ابن الأمير الصَّنْعاني استغرق يومًا واحدًا في نظمه نخبة الفكر المُسمَّى بـ"قصب السكر"؟ هل تعرف شيئًا عن جمع الفِكْرِ؟

حسنًا. تعالَ معي في هذه العُجالة نقف على هذا المعنى الذي سيختصر لك كثيرًا من المسافات ومعاني أُخرى مصاحبة لا بد أن تعرِفها.

جمع الفكر أقصدُ به: حصر التفكير في الموضوع الذي حددتَه في ذاكرتك، واتجهت نحوَه بعزيمة وصدق وإخلاص؛ وذلك أن الفكر له تشعُّبات كثيرة، وحسبك أن علماء الذاكرة يتحدَّثون عن ستينَ ألفَ فكرةٍ تخطُرُ ببال الإنسان يوميًّا، فلو جمع الإنسان فكرَه ولم يذهب هنا وهناك، ولم ينشغل بغيره ألبتةَ - لأتقَنَ ما يريد إتقانَه في وقت قياسيٍّ.

خُذْ على سبيل المثالِ الطالبَ الذي قيل له: ستُختبر غدًا الساعة الثامنة صباحًا في الكتاب الفلاني الذي يبلغ ثلاثمائة صفحة، وليس معه إلا يوم واحد! يُصلِّي الفجر، ثم يعكف على الكتاب، فيقرأ سطوره وما بين سطوره، ولا ينشغل بغيره أربع ساعات. إذا دُعي إلى الإفطار يأكُلُ وكتابُه بين يديه ولا ينشغل بغيره ألبتةَ، وحتى سوانح تفكيره لا تذهب لغير العويصات فيه، المشكلات منه. إنْ رفع سماعة الهاتف لا يتَّصِل إلا ليسأل عن مسألة فيه، وإذا تكلَّم مع أحد لا يَرُوق له أن يتكلم في غير مضمونِ الكتاب، وإن سرح بخياله ففي الخرائط الذهنية للكتاب.

ثم يعودُ للكتاب فينشغلُ به إلى صلاة الظهر، ثم يصلي الظهر وينشغل به، ويقوم في مصالح نفسه أو خدمة أهله وقتًا قصيرًا، ويعود للكتاب، وهكذا إلى الليل، وسيقتطعُ جزءًا مِن وقتِ نومه، وإن نام نام والكتابُ على صدره، وإن كان من أهل الهمم والعزائم، وأصحاب السَّبق والمسابقة، والجدِّ والمجاهدة، فسيحذف النومَ من جدوله، أو يغفو فقط وهو يعانق الكتاب؛ لأن فكرَهُ فقط محصورٌ في "كيف يُتقِن الكتاب؛ ليحوزَ المرتبة الأولى على زملائه؟"!

في وقت السَّحَر يكون قد أكمل الكتابَ، ويصلي الفجر ويقوم سريعًا بمراجعته وكأن ذاكرته كالماسح الضوئي لمعلوماتِ الكتاب، وفي تمام الساعة السابعة إن لقي أحدَ زملائه يقول له بشغف: اسألني! فيسأله، ولا يخرم منه معلومة، وفي تمام الساعة الثامنة يكون مستعدًّا للاختبار في هذا الكتاب، الذي لو قيل له: اقرأه، لن يقرأه في شهر، فضلًا عن أن يُحِيط بتفاصيله، ويقف على أسراره، ويسبر أغواره.

السؤال الآن: هل تستطيع أن تقرأ وتفهم بعقلية ليلة الامتحان؟ إنك في تلك الليلة تلتَهِمُ الكتاب التهامًا، تقرأ ما بين سطوره، تُفتِّش عن غوامضه، وأنت تعرف جيدًا حقيقة كلامي دون أن أصف ذلك، فما الذي يمنعني ويمنعك أن نفهم بتلك العقلية؟

المانع الوحيد أننا نُطلِق لأفكارنا العنان تسبَحُ في تشعُّباتِها. إذا حصرتَ فكرَك في موضوع مُعيَّن، فستعرف تفاصيلَه في فترة وجيزة، لكن ما نقَعُ فيه من خللٍ: أننا نريد أن نحفظ الكتاب الفلانيَّ، أو نُتقِن الفن الفلاني، أو نقف على تفاصيل ذاك العلم، ثم أثناء الدخول فيه تتشعَّب أفكارنا، فلا نُحقِّق الهدف الذي نريد.

ثم إنَّا نُدخِل فيه ما ليس منه، ونقسمه ونحفظه على فترات، فلا نصل إلى الأخير إلا وقد نسِينا الأول، ثم نعودُ إليه مرة أخرى ونسلك نفس الطريقة، وهكذا دواليك دواليك؛ كمَن يسير في حَلْقة مُفرغة، ولا نخرج منه بطائلٍ.

هناك العديد مِن المُؤلَّفات التي أُلِّفت حول مستدرك الحاكم، ومِن أهمها كتاب "التلخيص" للذهبي، وهذا الكتاب ألَّفه الذهبيُّ في مُقتبَل عمره، وقد حبَّره وأحسن صنعتَه في ثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وهي فترةٌ وجيزة بالنظر إلى عدد أحاديث مستدرك الحاكم التي تقرُبُ مِن تسعة آلاف وخمسمائة (9500) حديث.

وهذا ابن الأنباري سألَتْه جاريةٌ ذات يوم عن شيء مِن تفسير الرؤى، فقال: أنا حاقن، ثم مضى فاعتكف ليلته تلك على قواعد تفسير الرؤى، وما يتعلق بهذا الفن، فأحاط به إحاطة السِّوار بالمِعصَم، فعاد من الغد وهو معبِّر للرؤى، بل أستاذ في هذا الفن.

وابن الأنباري هذا مِن حفَّاظ العالَم وأذكياء الدنيا، فقد كان يحفظ ثلاثمائة ألفِ بيتٍ كلها شواهد على تفسير القرآن، وهذا لم يُؤْثَر عن أحدٍ قبله ولا بعده في حفظ الشعر، وليس هو فقط مَن أتقن علمًا في ليلة.

فهذا ابن جرير الطبريُّ لَمَّا دخل مصر لم يبقَ أحدٌ مِن العلماء إلا امتحنه، فجاءه رجلٌ فسأله عن شيء من العَرُوض، يقول عن نفسه: ولم أكن نشطتُ له قبل ذلك، فقلت له: عليَّ قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العَرُوض، فإذا كان في غدٍ فصِرْ إليَّ، وطلبت من صديق لي كتابَ العروض للخليل بن أحمد، فجاء به فنظرت فيه ليلتي، فأمسيتُ غيرَ عروضي وأصبحت عروضيًّا.

وابنُ تيميَّة أحاط بعلوم العربية في شهر، ثم أقبل على كتاب سيبويه ففهِمه وخالفه في أشياء، وأصبح بحرًا في هذا الفن.

والنورسي بديعُ الزمان حفِظ جمعَ الجوامع للسبكي في أصول الفقه في أسبوع واحد، وحفِظ في أيام معدودةٍ مِن القاموس المحيط من أوله حتى باب السين، وحفِظ أكثرَ مِن ثمانين كتابًا مِن أمهات الكتب.

وأما القَرَافيُّ صاحب الفروق، فقد ورد في الدِّيباج المُذهب أنه حرَّرَ أحدَ عشرَ علمًا في ثمانية أشهر، أو ثمانيةَ علومٍ في أحد عشر شهرًا.

لا أمانع مِن أن هناك أسبابًا أخرى شرعية - كالإخلاص والدعاء وصدق الطلب - لكن تبقى هناك أسبابٌ وقوانين لكل البشر، وإلا فكيف تُفسِّر نبوغ عباقرة المستشرقين الذين خدَموا العلوم الإسلامية وبرزوا فيما قدَّموه للأمة على علماء المسلمين فيما كتبوا؟

نعم، لا بد مِن الإخلاص، وصدق الطلب، وكثرة الدعاء في تسهيل حفظ وفهم علوم الشرع، لكن لا بد أن تكون القوانينُ الكونية حاضرةً ويتم التفاعل معها.

إن هذا القانون يختصر لك المسافات، فستحفَظُ الفنَّ الذي يستغرِقُ منك ستةَ أشهر في شهرٍ، وما يأخذ منك شهرًا في يوم، ألا ترى كيف اعتكف ابنُ خلدون على مقدمتِه فأصبحت آيةً للسائلين.

وبالمقابل تشعُّبات الفكر تُفكِّك لك السهل، وتقسِّمه، وتبعثره، فتجعله صعبًا متسلسلًا لا نهاية له. أذكر على سبيل المثال صديقي الذي عزَم على حفظ الآجُرُّومِيَّة، والآن له عشر سنوات لم يُكمِلها، كلما درس بابًا وفهِمه، انشغل بدراسة أو اختبار أو زواج أو تجارة أو سفر أو مرض، ثم يعودُ إليها فيرى نفسَه قد نسي أوَّلَها، فيعود من جديد، وهكذا.

وأجزِمُ أنه لو تفرَّغ لها عشرين يومًا، لأتقنها مع كل شروحِها، ثم لو فرَّغ نفسَه بعد ذلك سنةً كاملة أو سنتين لحفِظ ألفية ابنِ مالك، وفهِم شروحها، ولكان الآن عالِمًا بالطُّرة لابن بونا ودقائقِها.

إن مسألةَ جمع الفكر على شيء واحد، وعدم الانشغال بغيره، وحصر التفكير فيه، والاعتكاف عليه - يعودُ بالنفع على طالب العلم، وتأمَّل معي الشَّنَاقِطَة في نظام المحاضر وهم يتفرغون لدراسة الفنون، ثم ينتقل أحدهم مِن فن لآخر، وقد أصبح محيطًا بتفاصيله، وفي خلال فترة وجيزة يصل إلى مُبتغاه.

فما يحفظه طلابُ المشرق في ثلاث سنوات، يحفظونه في شهرين.

إن جمعَ الفكر وحضور القلب عند الحفظ والمذاكرة والمطالعة وإتقان أي علم - مهمٌّ جدًّا؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، قال الحسن البصري رحمه الله: استَمَع وقلبه شاهدٌ؛ فإنَّ قلبه إذا حضر، عقَل ما يقال، وإذا غاب القلب، لم يعقِلْ ما يقال له.

تعلَّم زيد بن ثابت لغة يهود في سبعةَ عشرَ يومًا، وأتقَنَها، وقد أمَرَه بتعلُّمِها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال له: ((تعلَّم لغةَ يهود؛ فإني لا آمنُهم على كتابي))؛ الترمذي.

ونعمل حسابًا تقريبيًّا لمسألة إحاطته بهذه اللغة الأجنبية، فنقول:

عددُ حروف اللغة العِبْرية أو السريانية اثنان وعشرون حرفًا، وأساتذة اللغات يُؤكِّدون أنه إذا أراد الإنسان أن يتحدث بأي لغة، فلا بد مِن حفظ ما لا يقل عن ألفٍ ومائتَي كلمةٍ مشهورةٍ من تلك اللغة، وأن تكون هذه الكلماتُ في لسانه ويده، وقادرًا على التخاطب بها بطلاقة ممارسًا لها؛ (براكتس).

فنقول: حفِظ زيدُ بن ثابت في اليوم الأول جميع الحروف ومائة كلمة نطقًا وكتابةً.

وبقِي يحفَظُ كلَّ يوم مائة كلمة نطقًا وكتابة، مُكرِّرًا لها مُعتكفًا عليها لمدة اثنَي عشرَ يومًا.

وفي خمسة أيام اختلط بالناطقين بها ومارسها معهم في تجمُّعاتهم وأسواقهم، فانضبَطَتْ معه جُمَلها، فأتَمَّها في هذه الفترة الوجيزة، وجاء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد حقَّق فيها الامتياز، فبقي هو المترجِمَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وقارئ كتبهم إليه.

فكأنِّي أتخيل زيدًا وقد اعتكف على تلك اللغة الأجنبية اعتكافًا عجيبًا مُتفرغًا من كل الشواغل والصوارف، لا يريد أحدًا يقطَعُ حبل أفكاره، زوَى نفسه عليها، وقصَرَ حلبات فكرِه على تفاصيلها.

ونحن اليوم قد يمكث أحدُنا قرابة سنتينِ إذا أراد أن يتعلَّم لغةً أجنبية، وفي أحسن الأحوال إن كان ذكيًّا ستة أشهر.

هذا هو سرُّ التفوق والنبوغ، أضف إلى ذلك الالتزامَ بكمية ما تريد إتقانه، والإرادةَ الصارمة، والرغبة الجامحة، وثوران الهمة وانبعاثها، فمَن عرَف هذا السر، عرَف الطريق إلى النبوغ.