برزت العلمانية كفكرة عاطفية هائجة عندما استحكم نمط من التدين في السلطة، أدى ذلك النمط لتقويض الحياة الطبيعية فقمع العلماء بذريعة كفرهم وزندقتهم. لكن بروز العلمانية كفكرة هائجة لم يكن إنطلاقاً من معرفة دقيقة بالذات الإنسانية، لكنه نوع من التطرف المضاد لتطرف التدين.

ولا بد للحديث عن فكرة الدولة ومعانيها الجوهرية، أن نعطي فلسفة أساسية لدور الدين في عالم الحياة وتأثيره في المجتمعات، قبل أن نكشف علل العلمنة للسلطة. كما نود التبيين أن العلمانية لم تطبق فعلياً في أوروبا حيث مهدها، بل نازعتها الفطرة البشرية فنحت منحى التدين المبطن بإسم العلم، فكل دولة تعتبر حقوق الإنسان جوهر قيمها هي دولة دينية بصورة أو بأخرى.

لقد نشأت العلمانية يوم نشأت بعاطفة هائجة ضد التدين المجافي لشأن الحياة السياسية، فبدلاً أن يجتهد أصحابها في تحويله لتدين يؤثر في شأن الحياة العامة راحوا لنبذ الدين جملةً واعتبروا أن العلة في الدين لا في التديُّن، وشتان بين الدين والتدين. غير أن هناك ملاحظة لابد منها وهي أن الدين الذي ضاق به ذرعاً المجتمع الأوروبي هو دين مجافي فعلاً لواقع الحياة العامة، فالمسيحية التي نشأت في أوروبا حُرفت وبَلِيت وأصبحت عبئاً على الذات.

وطابعُ الإسلام الحركة والمدافعة والانغماس في لبّ الحياة الإنسانية ومشكلاتها، بخلافِ ما عهدت أوروبا من أنماط الدين. وعليه فحديثها عن الدولة في نطاق الدين هو حديث عن الدولة في نطاق الإسلام لا في نطاق أي دين آخر.

ويتبين تدخل الإسلام في شأن الحياة العامة وتوغله في بنيتها في شتى ضروبها وشعابها وأركانها، فنجد القرآن يتحدثُ عن العدالة الإجتماعية في قضايا متعددة أبرزها الزكاة والصدقات والمواريث وأحكامها، ويتوغل في السياسة العامة فيتحدثُ عن العدل والشورى وتحكيم القسط، ويتحدثُ عن الاقتصاد في صور شتى من ألوان التجارة ومضابطها العامة التي تربوا بها الحياة وتزدهر ويُحرمُ التعاملات التي يضمحلُ بها شأن الإقتصاد ويذبُل.

ولسنا بحاجةٍ تفصيلية لسرد تلك المشاهد القرآنية الفسيحة المبثوثة في جنباته بجانب التأكيد على مسائل العقيدة والإيمان وتفسيح الحياة الإنسانية دون أفقها الأرضي المحدود، فالقرآن ليس خطاباً روحياً محضاً في الحين الذي يمتلكُ خطابه كل الروح، وليسَ خطاباً مادياً دنيوياً وإن كان فيه إشارات عميقة لقيمِ إستقامة الدنيا.

ومن هنا فالدين ليسَ مؤسسة بشرية خاضعة لميزان الهبوط والصعود، إنما ذلك شأن التدين، أي شأن الناس قدرَ كسبهم من الدين إهتداءً وضلالاً. ودور الدين في السياسة ليس جعلها معصومة لأن البشر لا عصمة لهم، بل دوره تثبيتُ القيم السياسية في ميزان الدولة وتطويع الدولةِ للقيم حتى لا تغدو الدولة متضخمةً على حساب الروح. ولا يتمُ ذلك بنمط العلمانية النابذ للدين، فلو قامت العلمانية فكرةً لإصلاح الدين لكانت دورةً من دورات التجديد الديني المستمر، ويمكن إعتبار جزء ضئيل منها أنها كذلك، لكنها قامت متطرفة فاقتبست من تطرف المتدينين تطرفهم، فكانت تمثل تطرف المادة وظل المتدينين المتطرفين يمثلون تطرف الدين.

 الدولة من منظور الدين تدور وجهتها حول الله، أما من منظور العلمنة فإن الله خارج معادلتها فليس هناك ما يسمو بالروح وبالتالي فكل شيء طبيعي وكل شيء يجوز، حتى امتهان كرامة الناس.

فما هي الفروق الجوهرية بين الدولة من منظور الدين والدولة المتعلمنة؟

1. الدولة من منظور الدين عبارة عن هيكل مؤسسي منظِم للحياة العامة، يجب أن يُسَخر لخدمة الروح والقيم، بينما من منظور العلمنة الدولة هي غايةٌ لذاتها.

2. الدولة من منظور الدين هدفها تحقيق القدر الأنسب من العدالة الاجتماعية، وتحقيق قيم الإنسان العليا في الأخوة والتسامح، أما من منظور العلمنة فالدولة عبارة عن آلة قابضة تفكك قيم المجتمع وأخلاقه وتجعل الإنسان عبارة عن وظيفة في كومة الطبيعة.

3. رؤية الدين للدولة أنها بكل مؤسساتها يجب أن تمثل الإنسان ولا تخصم من قيمه أو تدوس كرامته وذلك ليس في نطاق جغرافي بعينه بل الإنسان كإنسان، متجاوزة بذلك أطر القومية. أما الدولة من منطور العلمنة فهي وعاء يخدم مصالح مادية لفئةٍ من البشر دون آخرين.

4. الدولة من منظور الدين إنما هي وظيفةٌ بذاتها وهذا هو حجمها الطبيعي، أما من منظور العلمنة فيمكن للدولة أن تتعدى حجمها فتبتلع الإنسان.

5. الدولة من منظور الدين تدور وجهتها حول الله، أما من منظور العلمنة فإن الله خارج معادلتها فليس هناك ما يسمو بالروح وبالتالي فكل شيء طبيعي وكل شيء يجوز، حتى امتهان كرامة الناس.

6. قد تدعي الدولة العلمانية الحفاظ على كرامة الناس وأخلاقهم وقيمهم بأي مسمى غير المسمى الديني مع أنه لا مصدر للقيم ولا للأخلاق إلا الدين، فكل دولة تحمل في نموذجها رسالة مثالية هي دولة ذات طابع ديني مهما ادعت عكس ذلك.