يرى البعض أن الكتابة في موضوع التوحيد ترف لا طائل من ورائه، وأننا بحاجة للكتابة عن موضوعات السياسة والملف الأخلاقي وملفات الإلحاد الجديد، لكن إنّ أس الإيمان والركن الذي يقوم عليه دين الإسلام؛ هو التوحيد، وهو (لو) العبادات والسلوك، ولو حرف امتناع لامتناع كما هو معلوم، فإذا وجد التوحيد وكمل؛ صحت العبادات والسلوك، وإذا فسد أو نقص التوحيد آل ذاك الفساد والنقص إلى العمل والإيمان، فالتوحيد أساس صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة، وهو كمال التذلل والانقياد لله مع التحرر من رق النفس وعبادة من سواه جل جلاله. 

 

التوحيد يعطي للإنسان ماهيته وفحواه ومغزاه الكوني: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ويُبيّن الفاروقي في كتابه أطلس الحضارة الإسلامية أن جوهر الحضارة الإسلامية هو التوحيد، والحضارة عنده: "هي علاقة بين الجوهر الإسلامي (التوحيد) وبين الظواهر التي رسخت وجوده في التاريخ".

التوحيد عند الفاروقي ليس مجرد مفهوم تجريدي ديني غيبي فقط؛ بل هو مفهوم حيوي معرفي وفكري يقدم تصورات عن العالم والكون، وفق منهجية ينطلق منها هذا التفسير التوحيدي للعالم؛ فثنائية الله- المخلوقات تؤسس لمبدأ الإدراك المعرفي الذي يحفز الإنسان للبحث عن غائية الوجود، فيستقل بمعناه الحقيقي وقدرته ومشيئته مما يكسبه كامل المسؤولية فيما يقوم به، وبالتالي يخضع للحساب على عمله، والحساب هنا يعطي للأخلاق معناها.

إن الرقابة الناتجة عن البحث في مآلات الحساب تقدم ضمانة لإنتاج حضارة أخلاقية متوازنة قادرة على إصلاح ذاتها، وهذا يؤكد على مركزية الملف الأخلاقي في الحضارة الإسلامية. 

هذه المبادئ تحفز على الفعل الحضاري، من الأخذ بأسباب التوحيد وإستخدام أدوات المعرفة والتخلص من الخرافات المقيدة للعمل الحضاري، فالتوحيد يؤسس لفلسفة ما ورائية متينة، تقوم على أساس أن الله هو المسبب لكل شيء وأن لا مسبب غيره، وهذا ما يجعله نقيض الخرافة أو الأسطورة وهما عدوان للحضارة كما يقول الفاروقي، وبهذا ينزع التوحيد إلى خلق حضارة تفسر العالم بمباركة دينية تفصل بين المقدس والطبيعة، وهي لحظة تأسيسية لعلم الطبيعة.

 

مؤلف كتاب أطلس الحضارة الإسلاميّة- إسماعيل راجي الفاروقي (1921م-1986) 

فيما يخص الملف الأخلاقي والسلوكي يؤصل التوحيد لمبدأين يشيدان صرح الأخلاق وهما: تحمل الأمانة السماوية "الغائية"، وترتيب الحساب على الفعل البشري، لذا فإن التكاليف أو تحميل الأمانة هو أساس إنسانية الإنسان ومحتواها كما يقول الفاروقي، وهذه الإنسانية منضبطة في معناها من غير تأليه أو تحقير. 

إن نظرة واحدة في التاريخ والقراءة في تحولات المجتمع الجاهلي من حالة الاحتراب والهمجية إلى نسيج يتواءم وأمة واحدة على أساس توحيدي؛ يجعلنا ننظر إلى هذا الأصل باعتزاز وفخر، تأمل ربط القرآن بين توحيد الله ووحدة الأمة: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فتوحيدها لربها جعل منها أمة واحدة متآخية متسامحة تنجز الفعل الحضاري، وهكذا فالتوحيد يجعل كل أشكال المعارف والتطبيقات الحياتية والفنون نسقا واحدا يصطبغ بكماله، ويندرج تحت لواءه.