أشرقت شمس الصباح بعد ليلٍ حالك الظلمة، وحلقت الطيور مغردةً طالبةً للرزق، وعاد الغريب إلى وطنه بعد سنين عجاف، وخرج الأسير بعد عشرين عامًا حينما ثبتت براءته، وتزوج العاشقَان اللذان جفت دموعهما في رحلة حبهما، وتوقف بكاء الطفل بعد شبعه، هذه النهايات السعيدة التي نتمناها، ولكن هناك دائمًا على النّقيض من كلِّ هذا في الحياة، الحياة التي سنحياها مرة واحدة فقط.

يولدُ الإنسان دون إرادةٍ أو طلبٍ منه، ومنذ لحظات خروجه الأولى، من بين ظلمات ثلاث يستنشق هواء وطنه، وطنه الذي سيكون المكان المظلم الرابع إلى حين الوصول إلى ظلمة القبر، ظلمات بعضها فوق بعض، ولكن ألا يوجد خيط أمل نتشبث به مهما كان رفيعًا؟ وكيف يُقتل الإنسان فينا؟ هذه النفس التي وهبها الله تعالى خاصية التكيف، هي سر الحياة والوجود، والأمل وقودها.

منذ نشأتنا جلسنا حول شاشات التلفاز ننظر إلى صور الدمار في كل مكان، ونرمق دمع آبائنا ينسلّ من جفونهم متخفيًّا كي لا نرى انكسارهم، ونسمع نشيجًا خافتًا من أمهاتنا، وهن يضعن أيديهن فوق خدود تستحق حمرة السعادة لا الألم، وتبث الشاشة الصغيرة أمامنا صراخ أمهات ونحيب أطفال من كل مكان، وأشلاء ودماء، فننظر إلى أعضائنا كي نتفحص سلامتها، وننادي من حولنا لنعرف هل ما زلنا على قد الحياة؟ 

قد نقلت الشاشة -من خلال حواسنا- مشاعرَ الألم إلى أعماقنا، ورسَّخت جذور اليأس داخلنا، فماذا عسى الطفل الصغير أن يفعل؟ 

يعلم صانعو الإعلام أن الإنسان تجذبه صور الدمار أكثر من صور الأمل، وأن الإثارة والتشويق في مشاهد القتل تغلب مشاهد الحياة، وتزايد المشاهدات يعني تضاعف عدد المشاهدين والأرباح بصرف النظر عن الآثار الجانبية، أضف إلى ذلك برامج السخرية التي تقتنص بعض الجهلة وتوجه لهم أسئلة سهلة، فيجيبون عليها بإجابات مضحكة لجذب المزيد من التفاعل، فنقول في أنفسنا "هؤلاء هم العرب، ولا أمل فيهم"، ويبدأ الناس بتناقل السلبيات في كل مكان، متناسين أو غافلين عن القامات الموجودة والخير المنتشر حتى وإن كانَ متخفيًّا، وما يزيد الضرر ضررًا هو الانتشار الرهيب لمواقع التواصل الاجتماعي، بين فئات المجتمعات بكافة أعماره ومستوياته، بالتالي وصول المواد الإعلامية السلبية إلى كل بيت، وزيادة النزعة المادية الاستهلاكية وما يرتبط بها من تعلق الإنسان بالمادة فقط دون البحث عن أي اهتمام آخر "معها" كالاهتمام الروحي أو الجسدي مثلًا، فماذا يفعل التفكير السلبي فينا؟ 

العقل للبشريّ كجهاز الحاسوب يتبرمج بناء على ما يدخل عليه من معلومات وأفكار، وهذه الأفكار تؤثر على الجسد، والأحاسيس، والسُّلوك، والنتائج، والتقدير الذاتي، والحالة النفسية والصحية، والفكرة تجذب أمثالها من الأفكار سواء من ذاكرة الإنسان نفسه من ماضيه، أو من بيئته المحيطة، وفي جذور التفكير السلبي تكمن أمراض القلب، والضغط، والقرحة، وأمراض الأعصاب، يقول أحد الأطباء: "إنَّ القلق يجعل العصارات الهاضمة تتحول إلى عصارات سامة تؤدي في كثير من الأحيان إلى قرحة المعدة"، ويقول الجراح السير هنيج أوغلري: "الرجل السعيد لا يصيبه السرطان أبدًا، الحالات الأولى التي غالبًا ما يبدأ هجوم السرطان فيها كانت بعد كارثة ما: الانفصال بعدَ علاقة حميمة، كارثة مالية، أو حادثة ما، هذه من الحالات العديدة التي توحي أنَّ قوَّةً ضابطةً كانت تمنع انتشار السرطان قد أُزيلت".

يتحول التفكير السلبي بالتكرار إلى عادة من الممكن أن تصل إلى الإدمان، فيعتاد الإنسان الحزن، ويخشى الفرح، فلا يستلذّ طعامًا ولا شرابًا، يتألم على ماضٍ ومستقبل مجهول، وقد يتساءل القارئ: هل تريد منا أن نتفاءل في ظلِّ هذه الظروف؟ ألا يعتبر التَّفكير الإيجابيُّ هروبًا من الواقع ليرتاح الإنسان بينما هو يعلم أن لا أمل له؟ 

فأقول: إنّ الإفراط في الأمل سذاجة، والإفراط في اليأس موت، فعلينا أن نترك فسحة من الأمل لتحقيق أحلامنا، فسحة لتنفس القلب وتفتح العقل ولو بمقدار ضوء شمعة لتبديد الظلام، سواء في أوطاننا أو خارجها، والبحث في كلّ ضيق عن أي مخرج بعون الله، ربَّما لن يحقِّقَ التَّفكير الإيجابيُّ جميع طموحاتنا، لكنه يساعدنا على الاستمرارِ في الحياة، على الأقل كي لا نموت همًّا وحسرةً، " فلا يشيخ ويعجز الإنسان إلا بمنع روحه من الانطلاق، وسيطرة الخوف والحسد والغضب والتعصب والشك والعواطف الهدامة، بدل الاتجاه الإيجابي من أمل وتفاؤل وحب وتسامح وفهم وشجاعة "، فوجود هدف لنا في الحياة يزيد من مناعتنا النفسية، ويعطينا الأمل بأنَّ ثمَّة ما يستحق التعب من أجله، ويغرقنا في العمل والتفكير حتى انقطاع النفس لبلوغ المراد، فيحرم القلق وفراغ الحياة من اقتحام نفوسنا، ودائمًا لذَّة الوصول تُنسي وعورة الطريق.