العدالة والحقوق صِنوان لا ينفكّان عن ملازمة بعضهما، والعدالة بمعناها القريب هي أن يحصل أفراد المجتمع على حقوقهم ويتمتّعوا بها، من دون الالتفات إلى عِرقهم أو لونهم أو ديانتهم، أو مكانتهم الاجتماعية ومدّخراتهم المادّية! 

والعدالة هي التّوسّط بين الأخذ والعطاء، والتمتّع بالحقوق استنادًا إلى الواجبات، وهي رَسَنُ الفرس حين تجور فيشدّها خَيَّالها ويُعيدها إلى رُشدها وصِراطِها. وقد جاء في لسانِ العرب أنَّ العَدلَ ضِدَّ الجور، وهو ما قامَ في النُّفوسِ أنَّه مُستَقيمٌ. وقيل في تَهذيب الأخلاق: إنّ "العَدلُ هو استِعمال الأُمور في مَواضِعها، وأوقاتِها، ووجوهِها، ومَقاديرها، من غير سَرَفٍ، ولا تقصيرٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ".

والعدالة مفهوم واسع وضيّق في آن واحد، فعلى الرغم من حضورها في ساحات الحياة كلها بلا استثناء، إلا أنّ أساسها ينبثق من العقيدة والإيمان بالعدل الرّبّاني، وأَثَرُ حُضُورها الرَّاسخ جَلِيٌّ في الحضارات العظيمة التي عرفها التاريخ وسطّرها بأبهى الأيّام والوقائع وأعمقها تأثيرًا في وجه البشرية المتلوّن بألف لون.. بل يزيد! وللعدالة مَرَايَا تعكس الحقيقةَ في صفحات الحياة وعلى وجوه النّاس بلا وَجَل أو خَتَلٍ أو حَيَاء.

العدالة الإلهية

العَدلُ اسم من أسماء الله الحسنى، وهو صِفةٌ راسِخةٌ من صفاته سبحانهُ وتَعالى، والعَدْل في الأصل اللغوي مصدر وُضِع موضِعَ اسم الفاعل (العادِل)، لأنه أبلغ وأعمق، وتحقيقًا – لا شك فيه- لمعناه ومُقْتضاه. وبالعَدْل في الحُكمِ والإصلاح والإرشاد وغيرها من مناحي الحياة أمر الله جلّ في عُلاه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ﴾ النحل/90. وقد ارتبط العدل الإلهي بمسألة توزيع الأرزاق في حياتنا الدّنيا، وثِقل الامتحانات والبَلايَا الواقعة بقَدرٍ مكتوبٍ قد يدفعه الدّعاءُ في أحيان.

لكنّ السؤال الذي يُجلجِل الاعتقاد بالعدالة الإلهية لدى بعض النّاس هو: هل وُزّعت دُنْيانا بِعَدل؟ هل وُزّعت الأرزاق على البشر بِعَدل؟ هل نخرج من هذه الدنيا بحظوظٍ متماثلة؟

قد تبدو أسئلة كهذه سطحية لبعض الناس، لكنّها مدار الإيمان ومحطّ رسوخه لدى آخرين، والحقيقة أنّ الأمر ليس ببساطة التّسليم بالشعور بالراحة والطمأنينة الحاصلة بعد تأدية شعيرة من الشعائر الدينيّة. وينحو النّاس في فهم العدالة الربّانية في توزيع الأرزاق منحيان لا ثالث لهما؛ فإمّا أن يطمئنَ القلب إلى فكرة العدالة التي تجعل أرزاق الناس متساوية بالنظر إلى أنّ الرزقَ بين البشر منقسم إلى ما أُوتِيَهُ المَرءُ من مالٍ وأهل وعقل وجمال وكفاءات لا سعة لعرضها كلها، وبالنظر إلى أن المِحَن والبَلَايَا تكون بما يتناسب مع رزق الإنسان من عقل وصبر وقوّة إيمان واعتقاد استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة/ 286]، وبالنظر إلى أن حياةَ كلٍّ إنسان فيها ماضٍ وحاضر ومستقبل، قد يعيش بلاءه في صِغره، وقد يُعايِنه في مرحلة أخرى من مراحل مشواره الدّنيوي، لذا قد يبدو رزق فلان من الناسِ فائقًا في حين، لكنْ مَنْ يعلم ما قاساه في ماضيه، أو ما سيقاسيه في مستقبله، أو ما يعيشه في حاضره المستور! 

أمّا المنحى الآخر الذي ينظر من خلاله بعض النّاس إلى عدالة الله تعالى في توزيع الأرزاق فهو اعتقادهم بأنّ البشر ليسوا متساويين فيما أُوتُوه من نِعَم، وأنّها مَدَار التّكليف والامتحان، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ الفرقان/20.

وأيًّا ما كان ما يحلو للنّاس أن يركنوا إليه، وأيًّا ما كان يجعلهم أكثر ثباتًا ورسوخًا، فالمهمّ ألّا يتسرّب شوارد الشّبهة إلى القلوب فتعيث فيها فسادًا. فـ "الله أَعْدَلُ من قضى"، و"اللَّه أعدلُ قاسمِ".   

العَدَالَةُ المُجْتَمعِيّة

تتجلى أبرز معالم العدالة المُجْتَمعِيّة في تمركز السُّلْطة وامتدادها لتشمل معظم شرائح المجتمع، وتوزيع فرص العمل وفقًا للمؤهّلات والكفاءات المتاحة، وفي النظام الأُسَرِيّ وما يتعلق به من معاملات أخلاقية ومالية، لكن هذا النوع من العدالة يحتاج إلى ضبطٍ عالٍ لحاجات المجتمع وتحديد أولويّاته، ويحتاج إلى حرية في الاختيار، ومساواة في الأُفُق الممتدّ على صعيد كلٍّ من العلم والعمل والمعاملات، ومساواة في النظر إلى النّاس بغضّ النظر عن فقرهم أو غناهم أو انتماءاتهم المتعددة. والعدالة المجتمعية باختصار تحتاج إلى نهج نبويّ يتمثّل قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها) [صحيح البخاري].

والعدالة المجتمعيّة أشبه بمِيزانٍ تتساوى كَفَّتاه بالحقوق والواجبات، بعيدًا عمّا يتمتّع به كل إنسان من نفوذ وعلاقات! فحين يؤدّي المرء ما عليه اتّساقًا مع إمكاناته ويَضِنّ المجتمع عليه بما يستحقّه يختلّ الميزان وتنكشف العورات التي اعتاد سَوَادُ الناس على تسميتها بالمحسوبيات،والواسطات، وفيتامين (واو)! 

والعُرّة المجتمعية في ذلك كلّه هي أنّ كثيرًا من النَّاس لا تحتمل نفوسهم الضَّيّقة رؤية الإنسان المناسب في المكان المناسب له، لا سيّما إن كان في مجال الكَدِّ ذاته عملًا أو دراسة، فلا يرون الآخر إلا مُنافسًا، في حين قد يكون هذا الآخر لَبِنةً إضافية في صرح المجتمع الذي ينتمون إليه جميعهم. وقد صدق الشاعر حين قال: 

"أَعدَلُ النَّاسِ مَن يُعِينُ على الحقِّ ويُعْنَى بِنَصر مَن فِيه يَشْقَى". 

العدالة الفردية

هل يمكن للإنسان أن يَبْخَسَ نفسه حقَّها؟! هل يمكن له أن يُجْرِيها مَجْرَى الدُّون قاصدًا مُتعمّدًا؟ هل يمكن للعدالة الفردية أن تُخْضِعَ عواطفَ المرءِ للسيطرة إنْ جَارتْ وإن خارَت؟!

تتمثّل العدالة الفردية في السلوك العادل مع النفس أوّلًا، ومع المُحِيط والعَشِيرة الأقربين من جهة ثانية، فالعَدْلُ في الإنسان هِبَةٌ أو مَلَكةٌ تُهذّب صاحبها، وتَحضّه على الاستقامة في النّظر إلى الأمور من حوله. والعَدالة الفردية هي أن تُعطي من نفسِك ما يجب عليها بِحُبٍّ، وأن تأخذ ما لك بحُبّ وسلام ورضا..

العدالة الفردية تعني الْتِماس الأسباب والمُوجِبات النَّفسيّة التي تدفعك لكي تكون عادلًا بين مُؤهّلاتك وقُدراتك وإنجازاتك من ناحية وبين رغباتك وأمانيك من ناحية أخرى... وهي التي تدفعك لكي تكون عادلًا بين أولادك إن مال القلب لحظةً لأحدهم صغيرًا كان أو مريضًا أو غائبًا... وبين أصحابك إنْ الْتَفتَتِ النفسُ يومًا إلى غير ذي حقّ... وبينك وبين هواك إنْ أَرْدَاكَ مُتْرَعًا بشوقٍ لا مآل له! فَقول ابن الفارض: (وإن كُنْتَ المُسيءَ فأنت أعدَلُ جائر) مبالغة لا تَنْسجم مع عدالتك الفردية تجاه نفسك!