بعث الله عزَّ وجلَّ الأنبياء مرشدين ومُعلّمين، وأفنى الفلاسفة أعمارَهم وهم يُعمِلون الفكر، ونبغ العباقرةُ عندما صَقلوا عقولَهم بالمعرفة، وخرجَ الأطفال من أبنية العِلم يحملون كرّاساتهم ويُنشدون الأشعار، ويتباهون بقدراتهم اللغوية والحسابية والعلمية، فمن يستطيعُ أن يبني الأجيال، ويرفعَ قيمة الأمم، ويصوِّب الفكر، ويُهذّب النّفس إلا المعلم؟

دخلتُ المدرسةَ طالبًا منذ نعومةِ أظافري كالملايين غيري، كنتُ أجلس هادئًا مطيعًا؛ خوفًا ورهبةً وطمعًا، خوفًا من هيبةِ المعلِّم وصوتهِ الهادر، وبصدقٍ أكبر خوفًا من عصاه، وطمعًا في هداياه البسيطة، الكبيرة بأعيننا، نجماتٍ تُرسم فوق جبهات رؤوسنا، ولاصقاتٍ على كتبنا ودفاترنا، أحبُّ المعلِّمَ الودود، وأنفضُّ من حول الفظِّ الغليظِ، أراهُ ظالمًا متجبِّرًا، لم أكنْ أدري ما يدورُ في خلده من غايات، وما في قلبهِ من حبٍّ أخفته طبيعة عمله، ولم أدرِ إلَّا بعدما خضتُّ التَّجربةَ ذاتها.

كبرتُ وازدادَ تمرُّدي، وتدهورت قيمةُ وهيبةُ المعلِّمِ في ذهني بسببِ ما كنتُ أشاهدهُ من برامجَ تُدعى زورًا "ترفيهيَّةً"، برامج تحتقر المعلِّم، وتسخرُ من أعماله وتصرُّفاته، وهلِ الاستهزاءُ في مربِّي الأجيال ترفيه؟ تُطبعُ هذهِ الصُّور في ذهن الطَّالب، فيطبِّقها داخل الغرفة الصَّفيِّة وخارجها، ويتباهي كلَّ يومٍ بأفعاله أمامَ زملائه؛ ليبرزَ ذاته، ويعوِّضَ عقد النَّقص داخله. 

بدأتُ دراستي الجامعيَّةِ ولا زال طيشُ المرحلة العمريَّة يلاحقني، ثمَّ ظهرتْ تدريجيًّا حساسيَّة وعِظم المهنة، تدارسنا مساقاتٍ تعليميَّةً وتربويَّةً مختلفة، "أخلاقيَّات مهنةِ التَّدريس"، هذا المساق الَّذي يعيدُ ترتيب أفكارك، ويروِّضُ كلَّ سفَهٍ داخلك، ويحفر رباطةَ الجأشِ في نفسك، ويبرزُ عِظمَ الطَّريق، ومع تراكم المساقات، والتَّحليلات، والأساليب والوسائل التَّدريسيَّة، والتَّدريبات، والدَّوراتِ العمليَّةِ، تدركُ أنَّ الَّذي كنتَ تُسفّههُ لم يكنْ عمله مجرَّدَ كتابة بعض الكلمات والامتحاناتِ، بلْ هي رحلةٌ مرَّ بشوكها وورودها؛ ليتأهَّلَ للوقوفِ أمام الطَّلبة. 

"حين تبدأ بالتّدريس للمرّة الأولى، قد تميل إلى تأدية دور الصَّديق عوضًا عن دور صاحب السّلطة؛ لاعتقادك بأنّه من غير العادل إصدار الأوامر للتّلاميذ، غيرَ أنّ صغار السّنِّ يحتاجونَ في الواقع إلى الشّعور بثقة البالغين في حياتهم، فهم يريدونهم أن يرسموا ويعزّزوا الحدود التي تعطيهم الشّعور بالأمان، ويضعونَ كلّ البالغين الذين يلتقون بهم تحت المجهر؛ لكي يرصدوا ردّات أفعالهم." 

هكذا كانَ عامي التَّدريسيُّ الأوَّلِ، أحاول امتلاكَ قلوب الطَّلاب؛ لأنَّها -باعتقادي- الطَّريقةُ المُثلى لامتلاكِ عقولهم، فوجدتُّ أنَّهم يحتاجونَ إلى الشِّدَّةِ للسَّيطرةِ عليهم في غالبِ الأحيانِ "والشِّدة لا تعني الضّرب"، وإلى المرح في الأحيانِ الأخرى، كما كانَ يفعلُ معلِّمي الَّذي كنتُ أنفرُ منه، ورسخَ تعليمه في عقلي، فأنا أكتبُ الآنَ بفضله بعد الله عزَّ وجلَّ، ووجدتُّ أنَّ مراعاةَ الفروق الفرديَّةِ من صُلبِ التَّعليم، وهذه المراعاةُ تحتاج إلى الكثيرِ من العلمِ، والممارسة، والخبرات، والموهبة، والأصعبُ من هذا كلِّه أنَّ على المعلِّمِ أن يضعَ همومه الشَّخصيَّة جانبًا؛ ليستطيع استيعابَ هموم طلبته في وطنٍ يعجُّ بالهموم. 

يحرصُ المعلِّمُ الجديد على عدم اقترافِ الأخطاء أمام الطَّلبة، وأن يكونَ قدوةً مُثلى؛ كي لا تهتزَّ صورتَه أمامهم فيقلَّ احترامه، ويكونُ دائمَ التَّرقُّب لتصرُّفاته، ويخجل من سُّؤالِ زملائهِ كي لا يُظهرَ جهلهُ ببعضِ الأمورِ، ويحاولُ إثباتَ ذاتهِ، وتكوين العلاقات الطَّيِّبةِ مع المحاورِ الخمسة: "الطَّلاب، الزُّملاء، الإدارة، الأهالي، المجتمع المحليِّ"، وإنَّك لتعجب كيف إذا مرضَ أحدُ الفتيةِ، يبحثُ والدهُ عن أفضل طبيبٍ لعلاجه، ويجلس جاثيًا على ركبتيه دعاءً وابتهالًا، وربَّما لا يلبث ابنه غير سُويعاتٍ في المشفى، بينما يقضي اثنتي عشرة سنة في المدرسة، فلا يسأل عن معلِّميهِ وتعليمه، رغم أنَّ عقل الإنسان والأمراض الفكرية أشدُّ فتكًا وتأثيرًا على الإنسان ومحيطه من الأمراض العضويَّةِ محدودة الأثر، وأفكارُ المرءِ منَ الأسبابِ الرَّئيسيَّةِ لبقائه أو هلاكه! 

العجيبُ في مهنةِ التَّعليمِ-وليسَ خاصًّا بها- أنَّ سهولتها وصعوبتها تتناسبانِ مع مدى إخلاصِ المعلِّمِ فيها، وإدراكه لأهمِّيَّتها في بناءِ المجتمعاتِ وهدمِها، فإذا أردنا أن نتنبأ بمستقبل مجتمعٍ ما فلننظرْ إلى فكرِ وسلوكيَّات أبنائه، وكما قيل: "لا خيرَ في أمَّةٍ فسدتْ منابتُ أطفالها".