كلما تجولت في ركن السير الذاتية أو التراجم في المكتبات، تساءلت لم لا يكون هناك ركن للعمالقة الذين وقف هؤلاء الأعلام على أكتافهم؟ وقد أكد ذلك العالم الغني عن التعريف إسحاق نيوتن: "لقد رأيت أبعد من غيري لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني".
لم "يجلس على أكتافهم"، ولم يقل "استرخيت عليها"، أرى اليوم من يصف العبارة الثانية، ويتبرأ منهم نيوتن. يُقال: "إن الفشل الحقيقي هو أن تكف عن المحاولة"، ولكنه مخطئ من قال ذلك، فالفشل الحقيقي هو الجلوس على أكتاف الآخرين. لأن فشل الأخلاق فشل لا يضاهيه فشل، وسقوط لا يضاهيه سقوط، فالنجاح أرفع وأسمى، وأبعد وأرقى، فلا نجاح دون عزيمة وإرادة وصبر. فكيف بلذة النجاح من عرق الغير وكيف وكيف؟
أصدق ما أقول إنه "ليس كل ناجح نجح، وليس كل فاشل فشِل، فأن تفشل في محمود خير من أن تنجح في مبغوض". إن الوقوف على أكتاف العمالقة نجاح، والجلوس على أكتافهم نجاحٌ من نوع آخر، وما بين هذا وذاك "شتان".
نعرف شخصيات: أحدها تقف على أكتاف العمالقة، والأخرى تجلس عليها، رأيت عقل أحدهم يطل من قمة الجبل على عقل الآخر في الحفرة، وكلاهما على القمة! "إذا كنت قد رأيت أكثر من غيري، فذلك يرجع إلى وقوفي على أكتاف العمالقة الذين سبقوني"، هكذا نكرر مقولة العالم الغربي إسحاق نيوتن.
ومن ضمن من وقف على أكتافهم "نيوتن" وسائر علماء الغرب، العلماء المسلمين الذين استفادت منهم الحضارة الغربية على نطاق واسع، وﻻبد لعلماء المسلمين اليوم من الوقوف على أكتاف الغربيين ﻻستعادة مكانة {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
الحكمة ضالة المؤمن، ولهذا فإنّ اﻻستفادة من جوانب التفوق في الحضارة الغربية، قد تصبح واجبة على المسلمين، فإن "ما ﻻ يتم الواجب إﻻ به فهو واجب"، ثم إنها "بضاعتنا ردت إلينا"، بشرط رفض البضاعة المزجاة، و(استبعاد) محاوﻻت (اﻻستعباد)!
ومن الظريف ذكره هنا ما أورده "غوتهولد ليسنغ" (1729-1781م) في الخرافات وهي قصة الدجاجة العمياء قال: فقدت دجاجة بصرها وكانت معتادة على الحفر في الأرض بحثا عن الطعام فاستمرت تنبش في الأرض بدأب شديد فما كانت فائدة الاجتهاد لهذه الحمقاء؟ كانت هناك دجاجة أخرى حادة البصر وفرت ساقيها الطربيتن ولكنها لم تتحرك قط من جانب الدجاجة العمياء بل راحت بدون نبش تتمتع بثمار عمل الدجاجة الأولى، إذ أنه بمجرد أن تنبش الدجاجة العمياء حبة الشعير كانت رفيقتها اليقظة تلتهمها".
ولعل ما ذكره المؤلف روبرت غرين في كتابه "كيف تمسك بزمام القوة" في عنوان فصله "مفاتيح السلطة" وهو يتحدث عن كيفية الوقوف على أكتاف العمالقة بالمعنى السلطوي وليس بالمعنى العلمي قائلاً: لقد كان إسحق نيوتن يسمي ذلك «الوقوف على أكتاف العمالقة». وكان يقصد أنه في اكتشافاته كان يبني على منجزات الآخرين، وكان يعرف أن قسما كبيرا من هالة العبقرية المحيطة به يمكن نسبته إلى مقدرته الذكية على الاستفادة القصوى من بصيرة الذين سبقوه من علماء العصر القديم، والعصور الوسطى وعصر النهضة.
وكان شكسبير يقتبس حبکات روائية، وشخصيات، بل وحوارة من بلوتارخ، من بین کتاب آخرين، لأنه كان يعلم أنه لا أحد يتفوق على بلوتارخ في كتابة الملاحظات النفسية الحاذقة والأقوال الظريفة والذكية.
كم كاتبا اقتبسوا بدورهم -أو سرقوا وانتحلوا- من شكسبير فيما بعد؟ إننا نعلم جميعا قلة عدد ساسة هذه الأيام الذين يكتبون خطابات. بأنفسهم، فكلماتهم ليس من شأنها أن تكسبهم صوتا واحدا، فبلاغتهم وفطنتهم وحضور بدیهتهم -أو ما هو موجود منها- إنما يدينون بها لكاتب الخطاب، فهناك أناس آخرون يقومون بالعمل، بينما يحصل أولئك الساسة على الفضل.
وإن معکوس هذه المقولة هو أن هذه سلطة متاحة لكل شخص، تعلم كيف تستخدم معرفة الماضي، وسوف تبدو کعبقري، حتى عندما لا تكون في الحقيقة أكثر من مقتبس.
إن الكتّاب الذين غاصوا في عمق تفاصيل الطبيعة البشرية، وأساتذة التخطيط القدامى، ومؤرخي غباء البشر وحماقتهم، والملوك والملكات الذين تعلموا من خلال الصعوبة والمعاناة، كيف يصرفون أعباء السلطة، كل هذه المعرفة يتجمع عليها الغبار على الرفوف، وأصحابها بانتظارك كي تأتي لتقف على أكتافهم، ففطنتهم وتعابيرهم الذكية يمكن أن تصبح ملكاً لك، وبراعتهم يمكن أن تصبح براعتك، ولن يأتوا ليخبروا الناس أن أسلوبك مستعار منهم وليس أصيلاً، يمكنك أن تشق طريقك في الحياة بصعوبة، مرتكبا أخطاء لا نهاية لها، مضيعة الوقت والطاقة في محاولة عمل الأشياء من تجربتك الخاصة، أو يمكنك استخدام جيوش الماضي.
ولقد قال بسمارك ذات مرة: «يقول الحمقى إنهم يتعلمون بالتجربة، أما أنا فأفضل التعلم من تجارب الآخرين» "والتسلق على أكتاف العمالقة من قزم"، تعكس فلسفة وأيديولوجية أمم وشعوب استطاعت أن تتغلب على كل التحديات لتبني نفسها، وتنفض عنها رماد الجمود والجهل والتخلف، وتخرج من عصور الظلام إلى الرقي والرخاء والإنسانية، وفرضت احترامها على العالم، لم تتقدم تلك الأمم بالمال ولا بالثروات المادية ولا بالتكنولوجيا ولكن بالإنسان.
تقدمت تلك الأمم باحترام الإنسان وتقديره وتكريمه، بغض النظر عن جنسه أو لونه أو ديانته، والأهم من ذلك أن تلك الشعوب لم يبخل أفرادها بالعلم ولا المعرفة ولكن شاركوا العالم بها، ولم يسرق أحد مجهود الآخرين، بل يعترف الانسان بفضل الآخرين، وينسب لهم حقوقهم، ويحترم الملكية الفكرية، لم يكن ستيف هوكينغ لينجح لولا وقوفه على أكتاف العمالقة الذين سبقوه، مثل كيبلر وأينشتاين ونيوتن، لكنه لم يسرق أعمالهم وينسبها لنفسه، ولا يمكن لشخص أن ينجح دون الاعتماد على الآخرين وبمساعدتهم.
يجب علينا كشباب أن نحترم العلماء وأهل العلم، فما نحن إلا بذرة حصدنا الدهر في طريقهم، والنيل منهم هو التقزيم لعلمهم، واذا سقط المعلم حتماً سيسقط العلم تباعا له. لقد رأينا شباباً في واقعنا المعاصر الذي نعيشه في ظل التقدم وتكنولوجيا المعلومات، نرى شباباً ليس الهدف من تواصلهم عبر هذه الشبكات المعلوماتية إلا السب والشتم واللعن للعالم الفلاني ولكل المربين والسالكين دور العلم والتعليم، وأجزم جزماً قاطعاً أن هولاء لم يقرأوا كتاباً ولم يعرفوا قدر العلم وأهمية المعلم. "فهل يجب علينا أن نقف على أكتاف العمالقة لنرى مستقبلنا الذي نَصبو إليه ونحقق ما نريد؟"