في أولى ساعات الدخول المدرسي للموسم الحالي قدّمت لتلاميذ قسم السنة الرابعة ابتدائي قصاصات ورقية بغية ملئها ببعض المعلومات الشخصية وأردفتها بمجموعة من الأسئلة كان من ضمنها سؤال "لماذا تدرس؟" فلفت انتباهي إجابة أنجب تلميذ في القسم، "أدرس لكي أعمل عندما أكبر" فتذكرت مقولة المفكّر السوري الدكتور عبد الكريم بكّار "إنّ مدارسنا أخفقت في تحبيب القراءة للتلاميذ". فما هو السبب الذي جعل ولدا في الثامنة من عمره يفكّر في العمل؟
أوّلا نتكلم عن قصد الدكتور بكّار فهو لا يقصد بالقراءة هنا المقرّرات التعليميّة المدرسيّة وإنّما يقصد القراءة الحرّة، التعلّم الذاتي، التكوين العصامي، توسيع المدارك، التثقّف، يقصد المطالعة بالمفهوم المدرسي، ولا يبلغ الفرد هذا المبلغ إلّا بالانكباب على الكتب قراءةً وفهمًا وتلخيصًا أولا ومجالسة العلماء والمتعلمين بالاستماع والسؤال والحوار والنقاش ثانيا وانجاز البحوث العلميّة ثالثا والسفر واكتشاف الثقافات الأخرى رابعا. 

وهذا ما ينقصُنا وما لا تهتمُّ به مدارسنا وحتّى جامعاتنا وما يجب أن تهتمّ به، فالهدف الذي ابتُكرت المدرسة لأجله وقبلها الزوايا الاسلامية هو تلقين وتدريب وتربية الأفراد في مرحلة ما أبجديات ومهارات التّعلم والتطوّر ليستغلّها فيما بعد في تعليم النفس وتطوير الذات لباقي الحياة.

 
أمّا مجتمعاتنا فيختلف مصطلح القراءة فيه عن المتعارف عليه دوليا، فالقارئ عندنا هو الذي تقدّم في مساره التعليمي الأكاديمي وحاز على شهادة تسمح له بالتوظّف، أمّا القارئ بالمفهوم المنطقي فهو الشخص الذي له ورد يومي يختلف من أحد لآخر مخصص للمطالعة الموسوعية الحرة وهذا هو التَثَقُّف أمّا الأول فيسمّى التّكوين المتخصّص للوظيفة.
عرّف أحدهم الثقافة أنّها "معرفة كلّ شيء عن شيء ومعرفة شيء عن كلّ شيء" ومن هذا التعربف نستخلص أن لدينا من الممكن جدّا أن تجتمع الشهادة الأكاديمية العالية مع الجهل الثقافي، وهذه النتيجة وصلنا إليها لعدّة أسباب أهمها الاعتقاد المغلوط الذي نشأنا عليه والذي نُوَرِّثه لخلفائنا حاليا بأنّ الإنسان يدرس ليتوظّف، وبالتالي فلا لومَ لمن يحاول نَيل الشهادة بشتّى السبل حتّى الملتوية واللاأخلاقية منها لأنّه نشأ في مجتمع يُقيّم الفرد بشهادته الأكاديمية لا بمؤهلاته وكفاءاته.
و كلّ ما ذكرناه في كفّة وما سنذكره عن العلاقة بين التعليم والتربية في كفّة ثانية، فالتربية كما عرّفها المختصون هي "التنبّؤ بالسلوك بغية تعديله" وهي بالمفهوم المتعارف عليه مجتمعيا حسن الخلق، فقد عُرف قديما أنّ العلم مرتبط بحسن الخلق وقد قال شاعر النِيل حافظ إبراهيم:
لا تحسبنّ العلمَ ينفع وحده *** ما لم يُتوّج ربُّه بخلّاق
والعلم إنْ لمْ تَكتَنِفه شمائلٌ *** تُعيلُهُ كان مَطِيّة الإخفاق
أمّا في عصرنا فلم يعُد لمعادلة العلم والتربية وجود فقد قيل لي وأنا تلميذ في الثانوي "افعل ما تشاء المهم أن تدرس وتحصل على معدل مرتفع"، لقد حيَّدْنا دور المدرسة من مؤسسة التنشئة الاجتماعية التي تساعد رفقة المؤسسات الاجتماعية الأخرى على تكوين فرد متّزن صالح يتعايش في المجتمع يتأثر به ويؤثّر فيه بالإيجاب، إلى مؤسسة تعليمٍ للقراءة والكتابة بمعناهما الحرفي المجرّد فوصلنا لهذا الحال المزري المتعفن والملخّص يوميا في عناوين الصفحات الأولى للجرائد.
التربية والتعليم يجب أن يكونا متلازمين ويولَيَان الأهمية القصوى في أي مجتمع لبلوغ أسمى درجات التطور الشامل والحضارة المرجوّة، والابتعاد عن الأفكار الهدّامة التي تختزل التعلّم في الوظيفة والتركيز على العلم لمجرد العلم، التعلّم لنحيا حياة نيّرة، فلم يُقَلْ "العلم وظيفة" ولكن قيل "العلم نور والجهل ظلام".