إنّ الرؤى إلى واقع العالم الإسلامي تتعدّد حسب الزاوية التي تنظر منها إلى الأوضاع العامّة، وربّما كان المنهجُ المقارن في الحُكم على الظّواهر الإجتماعيّة وتطوّر الأمم والشّعوب سياسيًّا وحضاريًّا، هو الأقومُ للوقوف على درجة التقدّم ومُستوى التغيير لأمّة من الأمم. والمُقارنة بين أوضاع العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين وبين أوضاعه في بداية القرن الحادي والعشرين، تُفضي بنا إلى نتيجة بالغة الأهميّة مفادها أن تقدّمًا ملمُوسًا قد تحقّق، وأنّ الصّورة قد تغيّرت إلى ما هو أحسن، وأنّ واقع العالم الإسلامي اليوم، على الرّغم من التدنّي في مستويات التنمية والإنخفاض في معدّلات النّتاج الوطني في مُعظم البلدان الإسلاميّة، فإنّ حاضره لا يكاد يُقارن بماضيه من وجوهٍ عدّة يطول مجال الخوض فيها.
وربّما من أبرز الأسباب التي جعلت العالم الإسلامي معرضًا اليوم لمخاطر لا تعدُّ ولا تُحصى، كونه صار مُستهدفًا من كلّ النّواحي بسبب تواجده في قلب الصّراع المُحتدم، ممّا ترتّب عليه جُملةٌ من التحدّيات التي تُؤثّر بشكل عميق في الحياة العامّة. ولعلّ ثالوثُ الفقر والجهل والمرض هو أكبر المشاكل في طريق النهوض الحضاري.
وبالحديث عن الجهل مثلاً، نجدُ أنّ نسبة الأمية في العالم الإسلامي وصلت إلى 50%، في حين تصلُ في العالم المسيحي إلى 2%، ومفهوم الأمية أيضًا يختلف بينهما، ففي العالم المسيحي نجدُها تُعبّر عن عدم إنهاء الدراسة، أما في العالم الإسلامي فمعناها عدم القدرة على الكتابة والقراءة، وقد أشارت الأمم المتحدة إلى أن 90% من سكان العالم الإسلامي أميّون في حال تطبيق المعنى الأول1.
بالإضافة إلى أن مستوى التعليم العالي في العالم الإسلامي، أضعفُ كثيراً مقارنةً بالعالم المسيحي، لأنه مرتبط بدرجة كبيرةٍ بالوضع الإجتماعي والاقتصادي، مما يدفعهم إلى البحث عن لقمة العيش قبل الإلتفات للتعلّم والمعرفة.
أمّا بالنسبة لمظاهر المرض والتي ما هي إلاّ نتيجة استفحال الجوع في العالم الإسلامي
فيقول "أمارتيا سن" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998م: "إن سبب الجوع في العالم الثالث ليس نقص الغذاء، بل لأسباب كثيرة تنشأ من طرق توزيع الغذاء وسياسات الحكومات". ففساد النظام السياسي في كثير من دول العالم الإسلامي وصبّ جلّ اهتمامها على الحروب الداخلية يستهلك جزءًا كبيرًا من رأس المال الاقتصادي والبشري اللازم للتنمية والتطور
ممّا ينتج عنه انتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي مما يرفع من معدل الفقر والبطالة ومن ثم تدهور صحة المجتمع نتيجة تدني مستوى التغذية لعدم توفّر الطعام الصحي وتلوث مياه الشرب وعدم وجود الصرف الصحي والرعاية الطبية مما يؤدي إلى أمراض سوء التغذية.
ناهيك عن الحصار الذي يفرضُه أعداء الإسلام على المُسلمين، كالحصار الصهيوني على فلسطين، وحصار الولايات المتّحدة على العراق، ممّا أدى إلى إنفراط عٌقد الدولة وانتشار الفساد السياسي والإداري والمالي وكذا الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي الشّامل، ومن ثم انتشار الفقر والجوع والنزوح الجماعي، وسادت أمراض سوء التغذية في المجتمع.
أمّا بالنسبة للفقر كثالث مؤشرٍ في هذا الثّالوث، فنلاحظ وجود شرائح كبيرة من المجتمع الإسلامي تعيش تحت خط الفقر، الذي يمكن تعريفه بأنه: "مستوى الدّخل في دولة ما اللازم لضمان أدنى متطلبات الحياة للفرد ويختلف باختلاف دخل الدولة"2، وهذا يعني أن جميع أفراد المجتمع لا ينالون نفس المقدار من الناتج القومي الإجمالي، أي أنّ هناك عدم تساوٍ في الدخول بين أفراد المجتمع، والواقع أن هذا التفاوت في الدخل بين أفراد المجتمع موجود حتى في الدول المتقدمة، إلا أن الدولة في هذه المجتمعات تتدخل لتحمي أصحاب الدخول المحدودة بالمساعدات المالية كالضمان الاجتماعي، وكذلك توفير الرعاية التعليمية والصحية، وهو ما لا توفّره معظم الدّول الإسلاميّة، مما أدّى إلى إنتشار الطبقيّة الإجتماعية، فكانت بذلك الطبقة الثريّة هي التي تتركز بيدها معظم الثروة والسلطة، وبالتّالي تهميش الطبقات الأخرى إقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، مما يؤدي إلى إنتشار البطالة وعدم إستقرار المجتمع سياسيًّا وإجتماعيا لوجود صراع طبقي فيه من ناحية ومن ناحية أخرى سيؤدي عدم الاستقرار السياسي والإجتماعي هذا إلى فقد الثقة في الاقتصاد الداخلي للدولة على حماية الاستثمارات فيه مما يتسبب في هرب رؤوس الأموال إلى مناطق أكثر أمنًا.
ومهما يكن الحال، فإنّ هذه التحدّيات مهما تفاقمت وتعسّر حلّها إلاّ أنّها ليست ممّا لا سبيل إلى التّغلّب عليه، وتحويله من تحدّيات سلبيّة إلى تحدّيات إيجابيّة، تستنهضُ الهمم وتشجّع على العمل، وللوصول إلى هذا المُستوى من التفكير والتدبير والممارسة، لابدّ من انتهاج الأسلوب العلمي في التخطيط والتنفيذ، فدعم التعليم يأتي في مقدمة الجهود التي يمكن التركيز عليها لتحقيق اقتصاد الكفاية باعتباره أساس التنمية. في إطار تعاون وتكامل وتنسيق إسلامي حقيقي، فهذه الأعباءُ أضخم من أن تنهضَ بها دولةٌ واحدة.
وعليه فإنّ أبناء القاعدة العلميّة في المُجتمعات الإسلاميّة الحديثة هم مفتاح التّعامل مع تحدّيات العصر، مهما تفاقمت خطورتها، لأنّ الإنسان هو الأصل في بناء الحضارة، ولأنّ المُجتمع القويّ القادر على الدّفاع عن حقوقه ومصالحه، هو الذي تقوم فيه نهضة تربويّة علميّة وثقافيّة شاملة.