إن المشاريع التي وضع أسسها وتطرق إليها الدكتور طارق السويدان في كتابه (الخطة الاستراتيجية لنهضة الأمة) مهمة جدا لتحقيق النهوض، فقد تميزت بشموليتها ومرتكزات نفعها وأهدافها البناءة، والتي لابد أن تترجم إلى واقع يتمنى كل مسلم أن يراه ويشعر بوجوده ويستفيد من تطبيقه في الحياة العلمية والعملية لمواكبة الحاضر ولجعل المستقبل مرتكزا على نجاحه وأسرار تطوره.
إن الأمة بحاجة ماسة لمثل هذه المشاريع التي تدير شؤونها وتعمل على تحسين أوضاعها وتسعى بأهدافها نحو النمو والازدهار وغرس الثقة وتنميتها بين الشعوب ومن يديرها ويشرف على أعمالها ومن تلك المشاريع التي ترتبط بمؤشر المؤسسات، ننتقي مما طرحه الدكتور خمسة مشاريع نشرحها في هذا التقرير.
1.من أجل العدالة وتجويد المنافع!
يقوم المشروع الأول على وضع تصور حول آليات تطبيق الشريعة في وقتنا الحاضر، وهذا يتطلب منا أن نعيد فهم الشريعة بشكل عصري يتناسب مع أحوالنا، ولا يتعارض مع الثوابت والأصول في ديننا العظيم.
يسعى المشروع للوصول إلى فهم مشترك ورؤية واحدة حول دور الشريعة وتطبيقها في تلبية احتياجات الناس، في ضوء تغير الزمان والمكان ويحاول أن يجيب المشروع على أسئلة مستقبلية ملحة وهي:
- كيف سنطبق الشريعة في مجال السياسة؟
- كيف سنطبق الشريعة في مجال الاقتصاد والبنوك؟
- كيف سنطبق الشريعة في جانب الفن والإعلام؟
وهنا أقتطف من ثمار حروف د. السويدان ومدلولات كلماته ما يفسر كيفية تنفيذ مشروع التطبيق المعاصر للشريعة الإسلامية:
"لن يتم ذلك إلا من خلال فهم عميق للفقه الإسلامي بأنواعه لفقه الواقع وفقه الأولويات وفقه الموازنات، مع أخذ أمثلة ونماذج في عهد النبوة والصحابة والخلافة والتابعين، ليتسنى تمكين مثل هذا المشروع الذي يعتبر أساسا من أجل النهضة الإسلامية والفهم السوي لمقاصد الشريعة وإدراك فعلي لما يحدث في الواقع بمعرفة الفقه الحق الذي يعرف باحتكاكه بواقع الحياة.
وإن الفهم المشترك بين فقهاء الشريعة ومقاصدها يمكن أن يلبي احتياجات الواقع المعاصر لتطبيق الشريعة في جميع مجالات الحياة، وبرؤية واحدة توحد الجهود وتعمل على توجيهها نحو نهضة الأمة الإسلامية وتقدمها.
والتطبيق المعاصر للشريعة يستوجب فهما عميقا لتصوره وإذا كان الحكم على الشيء فرعًا عن تصوره فإن الفقه الحق هو الذي يكتسب أحقيته من احتكاكه بواقع الحياة وواقع الناس، وإن الفقيه بحق هو من يعرف الواقع ولا يجهله يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يعمله ولا يهمله، يبني عليه، ولا يبني في فراغ بل يعرفه معرفة سليمة تناسب عصره.
إن التطبيق المعاصر للشريعة يعمل على إخضاع الجزئيات لمقتضى الشريعة الإسلامية وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان متجددة لا تتبدد بالتغيرات أو بالتناقضات.
ولكي يكون التطبيق المعاصر للشريعة منضبطًا فإن من الواجب مراعاة الأمور الآتية:
- الحذر من تمييع نصوص الشرع بحجة الواقع والمعاصرة ومواكبة الحداثة.
- عدم الانسياق وراء المتلاعبين بمحكمات النصوص وقواطعها وثوابتها بحجة التجديد.
- الحرص على إبقاء مراتب الأحكام كما هي، فالقطعي قطعي والظني ظني.
التمييز بين ما يلزم الثبات وما يقبل التغير عند تقرير الأحكام (فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا يمكن أن تتغير فلا تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولايمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير. (عدم الجمود على المنقولات من فتاوى الأئمة السابقين وفتيا الناس بها رغم تغير الأحوال وتبدل الأعراف، فذلك جمود والشريعة منزهة عنه.
وما دامت الشريعة الاسلامية تحيط بجميع أفعال المكلفين، فقد صار لزامًا على فقهاء العصر وعلماء الامة أن يجتهدوا فيما يقع للناس من مسائل، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد وإزاء كل مستجدة حكم عبر منهج فقهي يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده والمعرفة بالواقع ومستجداته، مع توظيف بعض العلوم الحديثة كعلم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد لدى تكييف الواقعة من الناحية الشرعية، وقد يكون من الخير لفقهاء العصر أن يفيدوا من المتخصصين في كل علم عند تقريرهم للأحكام وبذلك يكونون قد برهنوا خير برهان على أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان.
ولابد أولًا من إصلاح النفس والمجتمع؛ فإن العصر الذي نَعيش فيه عصر ماديٌّ، لا يلتزم فيه كثير من الناس بالأخلاق إلا بقدر ما يضمَن لهم مَصالِحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية، وسوف يستمرُّ الوضع طالما ساد فِكر المنفَعة والمصلحَة، لا فكر الخشية مِن الله وطلب مرضاته؛ ولذلك فلن يَصلُح حال هذه المجتمعات إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية.
2.مشروع دستور الدولة الإسلامية
الدستور هو أبو القوانين وأبو الأنظمة، والمرجع الذي ترجع إليه الأمة إذا وقع أي اختلاف، هذا المشروع الإجابة على السؤال الذي يثار دائما: ما هو دستور الدولة الإسلامية؟
هناك ثوابت وأصول في شريعتنا، تمثل نقطة الارتكاز في دستور الدولة الإسلامية، وفي المقابل هناك أشياء متروكة للبشر، فنحن نريد من يقوم بتوحيد الأفكار حول دستور الدولة الإسلامية من حيث المبادئ الأساسية، وتقنين الشريعة، وآليات التطبيق في كافة جوانب الحياة.
"حاجة العالم إلى الرسل ماسة، فلو تركت أزمة الفكر الإنساني للاجتهاد المحض؛ لضل الناس رشدهم، ولما اتفقوا على حقيقة واحدة تصلح حالهم ومآلهم." محمد الغزالي
إن النظام الإسلامي الموحد في قوانينه وثوابته لا ميل فيه ولا غلو هو ما يمكّن الأمة من التقدم والمثابرة لتحقيق النهضة، وإن مشروع دستور الدولة الإسلامية يجلي الأهمية والقوة له في الحضارة المعاصرة وهنا تبرز خاصية الإسلام في صياغة أنظمته المجتمعية فهو لا يقدمها جافة فارغة وإنما أشبعها بالروح الدينية الدافعة التي تحقق القناعات الذاتية لدى أفراد المجتمع وتسيره نحو امتثال قوانينها وتشريعاتها بقوة داخلية لا خارجية.
جاء الإسلام بتلك الروح التي تحمل كينونة خاصة تخاطب الوجدان الإنساني وتمتاز بالحيوية والنشاط والإيحاء بالحقائق الكبرى التي تخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذها لإدراك معاني الشمولية وصلاحية المشروح لكل نواحي الحياة بتنوع مجالاته واختلاف توجهاته فما يوحد الأمة هو أعظم ما ينتمون إليه.
ويتم وضع الدستور الإسلامي بإبراز النموذج التشريعي الكامل وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم تحاكم إليه النماذج والتجارب الأخرى ليحصل بينها التلاحق والتبادل.
فإن الخطوة الأولى في مشروع دستور الدولة الإسلامية لا تكون بالانطلاق من النماذج المتنوعة والمختلفة للدساتير الدولية وإنما تبتدئ من إبراز النموذج السياسي الذي قدمه الإسلام وعمل على تحديد معالمه ومبادئه وتفصيلاته التشريعية والإجرائية ثم بعد ذلك يتم التوجه نحو تجارب الأمم الأخرى ليحصل بينها وبين ما قدمته الشريعة الإسلامية من تلاحق وتبادل وإضافات وتجديد.
وهناك مشاريع لدساتير إسلامية معاصرة يُمكن الاستفادة منها ، ونذكر بعضها:
- نموذج دستور وضعه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وهو مكون من 141 مادة.
- نموذج دستور إسلامي أقره المجلس الإسلامي العالمي في إسلام أباد وهو مكون من 87 مادة.
- نموذج لدستور إسلامي وضعه الدكتور مصطفى كمال وصفي نائب رئيس مجلس الدولة المصري رحمه الله وهو مكون 74 مادة.
- إعلان دستوري إسلامي للمستشار الدكتور علي جريشة رحمه الله وهو مكون من 49 مادة.
ويمكن الاستفادة من هذه الدساتير أيضا لوضع دستور إسلامي شامل وموحد يتضمن في محتواه الأفضل والأكمل من أجل الأخذ به وتطبيقه واقعا.
وإن إعداد مشروع الدستور الإسلامي هو توحيد الأمة الإسلامية على أسسها ومبادئها؛ لأن اختلاف القوانين بين الدول اختلافٌ لأنظمة الحياة فيها، ومشروع دستور الشريعة الإسلامية هو بداية وحدتها، وسياج يَحمي لغتها ودينها ومعتقداتها.
وأيضا الفوز برضا الله سبحانه وتعالى بتسخير مثل هذا المشروع الذي يسير حياتهم ويوحد صفهم وجهودهم نحو الألفة فيما بينهم والمعرفة التي تخلص فيها أعمالهم لربهم وهذه مسؤولية كل أبناء الأمة المسلمة في شتى بقاع الأرض.
3.مشروع الحوكمة.. صمام أمان المؤسسات
هي مؤسسة غير حكومية تسعى لإدماج وتقريب الشعوب من ممارسة العملية الديمقراطية والاطلاع على مختلف قضايا الوطن والفعل الإيجابي تجاهها، وتنطلق من فكرة الشفافية والمشاركة عبر جمعيات المجتمع المدني، ويكون ذلك عبر التدريب والتكوين الإلكتروني للأفراد لممارسة العملية الديمقراطية، والتدريب على تشكيل وتكوين الجمعيات المدنية، وفهم أهمية الدور الضاغط من أجل تقليل نسبة الفساد، والأحادية التسلطية من قبل الأنظمة بطريقة سلمية وقانونية وديمقراطية.
"الحوكمة هي النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها". مؤسسة التمويل الدولية IFc
يهدف مشروع الحوكمة إلى إيجاد نظام موحد للحوكمة وبمبادئ إسلامية تشرف على كافة المؤسسات والشركات العامة والخاصة، وتكتسب أهميتها من كونها تساير التطورات الحديثة حيث تركز على تطبيق مبادئ الحوكمة الإسلامية وبيان أثرها على تحسين عمل المؤسسات والشركات في المجالات المختلفة، وتعمل على تقريب الشعوب وتوعيتهم عبر تشكيل مجموعات تواصل اجتماعي وتثقيفهم وتدريبهم على ممارسات العمليات الديمقراطية وكذلك تمكينهم من التعرف على القضايا الوطنية وكيفية التعامل معها بأسلوب حضاري وإيجابي.
وأيضا تعمل على دمج الأفراد بجمعيات ومنظمات مدنية تهتم بالوعي الشامل والفهم السليم للمستجدات والتعامل معها بأساليب وطرق سلمية وديمقراطية تتناسب مع العصر وتظهر النموذج الإسلامي الحضاري بأبهى صورة، فمنذ ظهور الحوكمة التقليدية بعد الأزمات المالية العالمية في المصارف وأسواق المال على مستوى العالم والتي أدت لضرورة البحث عن آليات فعالة لضمان عدم تكرارها، وكذلك فإن موضوع الحوكمة الإسلامية أحد أهم الموضوعات المطلوبة لتنفيذها وتطبيقها في الواقع العلمي والعملي، مما يتطلب ضرورة معرفة المبادئ الخاصة بها والعلاقة بينها وبين الحوكمة التقليدية من حيث التشابه والاختلاف وإعدادها إعدادا محكما يلبي الاحتياج العام الإسلامي.
ويمكن التوضيح أكثر حول مشروع الحوكمة ببيان مفهومها ومبادئها من منظور إسلامي من خلال تكوين مجموعات متخصصين في الحوكمة وتطبيقاتها للتوصل الى نموذج ملهم يمكن تحويله الى واقع فعلي من خلال تكوين شبكات متنوعة من مختلف البلدان العربية والإسلامية لتحقيق أفضل النتائج ولإيصال مثل هذا المشروع لأكبر قدر من المهتمين والمختصين سواء إلى الافراد أو إلى المنظمات أو إلى الشركات أو إلى الحكومات وغيرها ويمكن أن يتم تبنيه بمفهومه الشامل للأمة الإسلامية ليس احتكارا لقطر دون آخر ليصل الى الهدف الذي وضع من أجله.
ويتم بحسب تنفيذ المشروع والجهات المرتبطة به على أن تكون قوانين ومبادئ الحوكمة الإسلامية ملزمة لجميع من يرتبط بها، ولذلك فيجب أن تطبق كما هي، وإدخال بعض التعديلات عليها بما يتلاءم مع طبيعة البيئة التي تطبق فيها من حيث الظروف الخاصة في بداية التطبيق وتقنينها لاحقا بوعي أفرادها ونشرها كثقافة لتصل إلى غاياتها.
كما يهتم مشروع الحوكمة الإسلامية بشكل أساس بالمبادئ الأخلاقية والعقائدية المؤسسية التي يفترض أن تكون صمام الأمان في الامتثال الجيد لمقتضيات الحوكمة مما لا يوجد نظيره في المؤسسات والشركات والأفراد ومنظمات المجتمع المدني التقليدية القائمة على ثقة القوانين الجامدة، والتي يكتسب مديروها وموظفوها المهارات التراكمية العالية في القدرة على الالتفاف وإخفاء الجرائم المالية، مما يحقق قدرًا كبيرًا من الحماية القانونية وعدم المساءلة والملاحقة القضائية، وكل ذلك على حساب الأطراف ذوي العلاقة بأنشطة المؤسسة المالية.
إن مشروع الحوكمة الإسلامية يكون عاملا ملائما مرنا بتطبيقه وتنفيذ مبادئه دون انحياز، حيث أنّه يعمل على علاج كل ثغرات الحوكمة التقليدية وبشفافية ومصداقية تؤكد صدق الانتماء الإسلامي.
ويمكن أن يكون نظام مبادئ حوكمة الشركات والمؤسسات العامة والخاصة نظام تمت صياغته وفق أحدث المتطلبات الدولية وبما يتماشى مع أفضل ما وصل إليه الوضع في معظم الدول المتقدمة وفق رؤية إسلامية ومنظور شامل يرتبط بشتى المجالات.
إن تطبيق مبادئ الحوكمة الإسلامية يحقق وجود الإدارة الرشيدة في كل القطاعات العامة والخاصة ويعمل على ترعرع الرقابة الذاتية ويحقق نموا وازدهارا فردي وجماعي للمؤسسات والشركات والدول.
وتلعب مجالس إدارة الشركات والمؤسسات دورا هاما في تطوير نفسها وتطوير الأسس المؤسساتية للنهوض وفق مبادئ الحوكمة الاسلامية المعتمدة ليستمر بقاؤها ويدوم.
إن وجود مشروع الحوكمة الإسلامية يعني التفكير الجاد في السعي نحو نهضة الأمة عبر مؤسساتها وشركاتها بما يجلب الفوائد العامة لكل الأطراف المعنية بالحوكمة وتعمل بالسير قدما بكفاءة واقتدار جنبا إلى جنب مع مؤسسات القطاع الخاص والعام من أجل تحقيق الربحية للمساهمين وتعزيز مكانة وأصول الشركات والمؤسسات نحو واقع ومستقبل افضل.
4. المركز الديمقراطي الإسلامي
تأسيس مؤسسة غير حكومية تسعى لتعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي، وتُمارس دورها عبر الفيديوهات التثقيفية في المجال الديمقراطي، وتبسيط النظريات السياسية، ونشر التقارير الدورية حول الوضع السياسي والديمقراطي في البلدان العربية والإسلامية، وإقامة ملتقيات وندوات عالمية في حال توفر الدعم الكافي أو تبني جهة حكومية للمشروع.
"الديمقراطية عليها أن توفر للأكثر ضعفا، نفس الفرص التي توفرها للأكثر قوة." غاندي
إن إبراز مثل هذا المشروع في الواقع يعتبر تقدما تستفيد منه الأجيال المتعاقبة لتواجد الروح الإسلامية فيه وفي خصائصه ومتطلباته، بتظافر الجهود والرؤى ومصداقية تطبيقه الفعلي ويعتبر نموذجا فريدا متميزا يحقق الضمانات القوية في المحافظة على الحقوق السياسية والاجتماعية والشخصية بشكل قانوني عصري يتناغم مع الحاضر ويؤصل للمستقبل لامتلاكه من القوة الروحية ما لا يوجد في غيره.
وقد أثار عدد من المفكرين العرب سؤالا عن مقدار الضمانات التي يمتلكها النظام الديمقراطي للمحافظة على مقدرات الشعوب وعلى امتثال العدل في الممارسات الفعلية وتوصل د. راشد الغنوشي إلى أن المبادئ الديمقراطية لم تستطع "كبح جماح الفئات القوية الضاغطة عن التحكم والإفساد وتسخير السلطة لإفراغ جملة الضمانات التي قدمتها الديمقراطية من محتوياتها" (الحريات العامة [2/10]). وأكد على أن النماذج الغربية للديمقراطية تمارس استبدادا ناعما وفداحة كبيرة في النهب المنظم لأموال الناس وقال: "رغم أهمية الآليات الديمقراطية ومبادئها فإنها لئن وضعت حدا لكثير من ضروب العنف السافرة كالتي كانت عليها الأنظمة الديكتاتورية فإنها لم تضع حدا بل لم تخفف إن لم تكن فاقمت من ضروب العنف الخفية" (السابق [2/11]).
وكل هذا يؤكد لنا خطورة الفراغ الروحي الذي يعاني منه النظام الديمقراطي الخالي من الروح الإسلامية التي تستند إلى القيم وصدق الانتماء والفهم الإسلامي لها ويؤكد أهمية الارتباط الديني والروحي الذي تتشبع به الشريعة وتدعو إلى ضرورة استحضاره في الإصلاح السياسي والاجتماعي وكافة مجالات الحياة المرتبطة بذلك.
وإن تأسيس مشروع المركز الديمقراطي الإسلامي كفيل بغسل الصبغة الغربية التي لم تنجح تماما في تلك المجتمعات، وكفيل بسد الفجوة بين التطبيق المتباين بين المجتمعات الإسلامية ليكون مركزا إسلاميا جوهره صافي وتطبيقه وافي يستمد قوته وثباته وحقيقة مبادئه وأهدافه من الشريعة الإسلامية بالاستفادة من التاريخ والواقع المعاصر.
إن النظام الديمقراطي الإسلامي المشبع بالروح الدينية الذي يختلف تمام الاختلاف عن مبادئ الأنظمة الفارغة من تلك الروح لأنها مفتقرة إلى تأسيس شرعي في أصلها ومحتاجة إلى الامتداد التاريخي الديني لتكون في الحقيقة نظام يعتد به فلا يحمي الأقوياء ويجرد الضعفاء بل يتساوى به كل فرد وفئة بحسب ما وجد من أجله ليحقق غايته.
وتشكيل وإنشاء مثل هذا المشروع الذي يجمع نخبة متنوعة تسعى نحو تحقيق أهداف موحدة ليصل إلى غايات مرسومة، لأننا بحاجة للعودة إلى الروح الدافعة التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود ونسعى إلى التشبع منها وبثها في الواقع مرة أخرى.
إن التوجه نحو مشروع المركز الديموقراطي الإسلامي يحتم علينا الاستفادة من النظام الإسلامي سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء الراشدين والحرص على استيعابه وجمع كل مفرداته وتطبيقاته المشرقة وإعمال النظر في نصوصه والبحث في كنوزه والتنقيب عن أصوله ليصل إلى النموذج الصافي من كل ما يكدر صفوه ليكون سائغا سهلا في أسسه وآليات تطبيقه.
5. منظمة الشفافية العربية.. جسر نحو المصداقية
إن الهدف من إنشاء هذه المنظمة هو القضاء على الفساد بكل صوره وأشكاله، الفساد المالي، الفساد الإداري، الفساد السياسي، ويشير الدكتور السويدان أنّه في بداية الأمر لا مانع من الاستفادة من تجربة منظمة الشفافية العالمية، بحيث نستنسخ منها التجارب التي تتناسب واحتياجات عالمنا العربي والإسلامي.
إن مشروع الشفافية العربية يمكن أن يكون شاملا متجددا في آلياته، ويمكن توضيح معنى الشفافية بأنها تعني تسليط الضوء على جميع المجالات والقضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية بإيجابياتها وسلبياتها وتسلط الضوء أيضا على أي صفقات مشبوهة، أو أي استغلال رسمي أو فرعي في المؤسسات التجارية والصناعية والاستخراجية وضعف إنفاذ القواعد والممارسات غير المشروعة الأخرى التي تقوض الحكومات الجيدة، والأعمال التجارية والاستثمارية الأخلاقية والمجتمعات بشكل عام بتقارير حقيقية فعلية وملموسة في الواقع دون تحيز.
وتُعدّ الشفافية حقًا معترفًا به دوليًا، وينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير؛ ويشمل هذا الحق الحرية في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس وتلقي ونقل المعلومات والأفكار من خلال أي وسيلة ودونما اعتبار للحدود "(المادة 19).
وعلى الصعيد الوطني، فإن معظم البلدان تكرّس الشفافية في القانون، مضمنة إياه باعتباره حق أساسي في دستورها وهذا ما يكسب منظمة الشفافية العربية الشاملة قوتها ونفاذ مشروعها.
وتعمل الشفافية العربية على متابعة مباشرة وغير مباشرة لسير عمل الموظفين العموميين وموظفي الخدمة المدنية، ومديري وأعضاء مجالس الإدارة ورجال الأعمال بشكل واضح ومفهوم، وتقديم تقرير عن أنشطتها وأعمالها ونتائج متابعاتها سلبا وايجابا وكشف الفساد بمختلف مجالاته وطرقه لتمكين المواطنين من معرفة قضايا مجتمعهم وإدارته التي تدير شؤونه وتتحكم بسيره وتقدمه وماذا يمكن أن يوفر له وماذا أخذ منه لتكون الحلول ممكنة دون تمييز أو تنفذ.
ومن خلال منظمة الشفافية العربية سيتم غرس ثقة بين المجتمعات والمنظمة وهذ يعني أن الناس يمكن أن يحاسبونهم، وتعتبر هذه الطريقة الأضمن ضد الفساد، وتساعد على زيادة الثقة في الناس والمؤسسات التي يعتمد عليها المستقبل وتشكل جسرا يصلهم بمصداقية تربطهم بتلك المؤسسات وتصنع درعا منيعا أما من يحاول اختراقه والتحكم بعكس ما تهدف اليه.
ومشروع الشفافية العربية يعمل على وضع النظام المناسب من أجل إيجاد حلول مشكلات الشفافية في مجتمعاتنا والحد من الفساد بكل صوره وأن العمل على تعزيز أحكام الشفافية يقطع شوطًا طويلًا نحو معالجة بعض هذه المشاكل المستمرة والمتغيرة، وتشير الشفافية إلى إتاحة المعلومات "مباشرة من المصدر"، دون تلاعب أو أجندات خفية لأخذها مبدأ المصداقية والموثوقية كما أنّها تدعو إلى تحديد قواعد اللعبة، والآليات المناسبة للمساءلة والتحقق والأمان بوسائل متعددة وبمرونة تلبي متطلباتها.
ومن الناحية العملية، تستلزم الشفافية أن تكون مؤسسات الدولة العامة والمؤسسات الخاصة منفتحة، وأن تكون المعلومات المناسبة متاحة أمام المواطنين، ويجب أن يحظى المواطنون أيضًا بفرص مجدية وعملية للرد، ويجب أن يكونوا قادرين على إخضاع المسؤولين الحكوميين والمسؤولين غير الحكوميين للمساءلة لتلبية تطلعاتهم ومعرفة ما يهم الشعوب من مقدرات وثروات.
إن مثل هذه المشاريع الفريدة والموجهة إلى كافة الأمة الإسلامية أفرادا ومؤسسات شركات ومنظمات علماء ومفكرين والتي يمكن أن ترى النور على أيدي وجهود العلماء والمفكرين والمثقفين والشباب الذين تهمهم أمتهم ويسعون بشتى الوسائل والطرق من أجل نهضتها، بحرصهم الشديد وتفانيهم من أجل صناعة حاضرهم لتأمين مستقبلهم ومستقبل الأجيال من بعدهم بمشاريع تعينهم على المضي قدما للسبق والتقدم أمام الأمم بازدهار واقتدار يرسخ البقاء والاستمرار في جميع مجالات الحياة في الأمة الإسلامية.