كلمة الأسرة واسعة المدى، فلا يمكن حصرها في تلك التركيبة العائلية بين الزوجين والأبناء الذين هم ثمرة الزواج وفروعهم، فالأسرة هي أهم المؤسسات الاجتماعية التي يتكون منها البناء الاجتماعي للمجتمع فصلاح الأسرة واستقرارها يولد أفراد صالحين مصلحين في المجتمع يعينون على بناء الحضارة وازدهارها لا احباطها وإنزال مقامتها. 

ولهذا قد عني الاسلام بالأسرة وأكد على ضرورة استقرارها والعناية بها وذلك من اجل تكوين مجتمع سعيد متين تنبع وتمتد من الإيمان بالله عز وجل وقانونها الذي يضله وينظم علاقته متمركز ومستمد من شرع الله ومنهجه ويصور ذلك أحسن تصوير قول الله عز وجل: ''يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء/1]  

ولما كان الفرد اللبنة الحية في بناء المجتمع الإسلامي، كان من البديهي أن يهتم الإسلام اهتماما كبيرا بالمحضن الطبيعي الذي يقوم على رعايته، وليس هناك أجدر ;أحق من الأسرة مكانا لهذه الرعاية، بل لا يوجد بديل عنها على الإطلاق. فقد أثبتت التجربة العلمية أن الأطفال الذين يعيشون بين أبويهم أقوى جسما وعقلا وعاطفة من الأطفال الذين ينشؤون في الملاجئ.

وبالعودة إلى الظروف التي سايرتها الدول الإسلامية والعربية بالخصوص نجد بأن العديد من الدول مرت بالعديد من الفترات والأزمنة شهدت خلالها الساحة العربية العديد من الحروب والأزمات السياسية أدت بدورها إلى تفشي ظاهرة الهجرة الأسرية إلى المناطق الأكثر أمنا واستقرارا وهذا ما أدى إلى عدم استقرار الأسرة العربية وتدني فعاليتها ودورها في المجتمع، ومع هذا فإن هناك عوامل أخرى ساهمت في هدم استقرار الأسرة، من أهمها العوامل الاجتماعية المحضة كالعلاقات العرقية والدينية والقبلية والأخرى، ومنها الظروف الجيوسياسة التي مرت بها البلاد العربية في العشرين سنة الأخيرة جراء الحروب وعدم الاستقرار السياسي.

 العوامل السياسية والاقتصادية المؤثرة في فاعلية الأسرة

باعتبار أن الأسرة هي أحد النظم الاجتماعية المهمة في جميع المجتمعات الإنسانية فإن الاستقرار السياسي هو عامل مهم في استقرار الأسرة وزيادة فاعليتها داخل المجتمع، وبالنظر إلى الظروف السياسية التي مرت بها البلاد العربية في آخر عشرين سنة، نجد أنه هناك عدة عوامل أثرت على الاستقرار للعائلات والأسر العربية.

 الملاحظ في دول الخليج أن العوامل الاقتصادية لعبت دورا كبيرا على مؤسسة الزواج وبناؤها فهي قد مرت بمرحلتين متباينتين، فشهدت مرحلة ما قبل النفط أو مرحلة ما قبل الانتعاش الاقتصادي أين كان النمط المعيشي السائد قائما على البساطة والطريقة البدوية التقليدية استقرارا أسريا و تقاربا في السن بين الزوجين، وذلك بسبب النمط السائد غير أن التحول في الظروف الاقتصادية والانتقال إلى مرحلة النفط والاعتماد على البترول في الاقتصاد أدى إلى تحول ديناميكي في سيرورة الزواج في دول الخليج، حيث لوحظ أن شريحة من الشباب ذكورا وإناثا ظلوا سنوات متأخرة خارج دائرة الزواج وذلك بسبب عوامل بنائية كالتوسع في التعليم والارتفاع في تكاليف الزواج وغيرها من العوامل التي ساهمت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تقليل من نسبة الزواج وسط الشباب في الخليج العربي.

 بالنظر في حال المجتمعات المغاربية يتضح أنه التحولات الاقتصادية والسياسية في السنوات الأخيرة لعبت دور المحرك الرئيسي في حركة سير الزواج فقد شكلت ظواهر عديدة من بينها انخفاض المستوى المعيشي وارتفاع متطلبات الزواج من صعوبة السكن والبطالة وغير ذلك في تدني نسب الزواج في المجتمع المغاربي مقارنة بسنوات الثمانينات. 

 العوامل الاجتماعية في فاعلية الأسرة

إن السديد في هذه الدراسة -التي نستعرضها- أن العوامل الاجتماعية لعبت دورا مهما في توجيه بوصلة الزواج في العالم الإسلامي، فقد عرفت بعض الدول الاستقرار الأسري، في حين شهدت ارتفاعا في نسب الطلاق لدى بعض الدول الأخرى.

 كانت المجتمعات المغاربية  تسودها سابقا العديد من الضوابط الاجتماعية المتعلقة بالعادات والتقاليد والأعراف العرقية قبل أن يتغير في السنوات الاخيرة بتغير القوانين السائدة في البلدان المغاربية ومزاولة المرأة للعمل المأجور مما أدى إلى تشكيل بنية زواجية جديدة مبنية على التكافل بين الزوجين في تحقيق متطلبات الحياة الكريمة، في حين هذا الأمر وقف مانعا أمام البعض في تشكيل الأسر وذلك بسبب الأعراف الاجتماعية السائدة.

أما في دول الخليج فقد شكلت العوامل الاجتماعية والتحولات البنائية التي تعرضت لها كالتحضر والهجرة بنوعيها الداخلي والخارجي إلى تحوّل نمط الزواج من النمط القرابي الداخلي إلى النمط الخارجي، فتزايد الاتجاه إلى الزواج من خارج الدائرة القرابية على مستوى العائلة أو القبيلة، خاصة في المراكز الحضرية، بل ظهرت زيجات لم تعد تأخذ في الاعتبار العديد من القيَم التي تقوم عليها مؤسسة الزواج. 

وظهرت الزيجات المختلطة، وشاع الزواج من غير المواطنات الخليجيات، كما شاع زواج المواطنات الخليجيات بأزواج من الجنسيات الوافدة في دول الخليج. وظهرت أنماط مستحدثة من الزواج لم تكن معهودة فيما سبق كزواج المسيار وزواج المسفار ونحوها. وقد ارتبطت بهذه التغيّرات جملة كبيرة من التحديات والمشكلات، وهبت المؤسسات التشريعية إلى سن القوانين التي تنظم تلك الزيجات وتحفظ حقوق الأطراف المعنية بها.

كما  ظهرت العديد من التغييرات الجذرية فتأخر سن الزواج لدى الفتى إلى ما بعد 28 سنة و24 سنة لدى الفتاة كما نشب التنافر والتفكك الأسري بدل العلاقات الحميمة وطابع الاستقرار والتماسك وذلك نتيجة للخلافات التي فرضت على بعض الأسر نتيجة لتحديات الحياة اليومية، وتحوّل قرار الزواج واستمراره من قرار جماعي يتخذ على مستوى الأسرة الممتدة إلى قرار فردي يصنعه الفرد بما يلبي حاجاته وتطلعاته الفردية، وغالبًا ما يؤدي إلى انهيار كيان الزواج عند أدنى هزة تتعرض لها الأسرة، وقد أدّى ذلك إلى انتشار الطلاق بشكل لم يعهد له مثيل فيما سبق.

أخيرا 

لقد كان الزواج -ولا يزال- نظامًا أساسيًّا في كلِّ المجتمعات البشريَّة، صحيحٌ اختلفت مضامينه وأشكاله من مجتمعٍ لآخر بحسب الثقافات والمفاهيم المتنوِّعة من بيئةٍ لأخرى ومن عصرٍ لآخر، لكنَّه نظامٌ ثابتٌ أَقَرَّتْهُ كلُّ المجتمعات والأعراف منذ وجود الإنسان على الأرض، وتبقى الاسرة هي اللبنة الاساسية في تشييد المجتمعات النهضوية والتي تسمو بالأمة نحو الرقي والازدهار وذلك لو توفرت الظروف وتهيأت الأسباب لذلك.