تصاعد الاهتمام بالوقف من جديد منذ عدة عقود، وبات يرجى له تواجد تنموي حقيقي ومؤثر في الحياة العامة يزداد فاعلية مع الوقت، وجاء هذا الاهتمام بتفعيل دور الوقف بالتوازي مع تنامي الاعتقاد بضرورة تطوير دور مؤسسات المجتمع الأهلي (المدني) -بصفة عامة- ليكون مكملاً لدور الدولة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، لا سيَّما عبر المؤسسات الخيرية المشابهة للوقف على مستوى العالم.
وعلى الرغم من أن هذا الاهتمام المتنامي بتفعيل دور الوقف جاء متزامنًا مع استفحال ظاهرة الغلو والتطرف والتي باتت تؤرق العالم أجمع، لا سيَّما بعد أن تحولت في الفترة الأخيرة إلى ارتكاب جرائم عنف خطيرة على المستويين الدولي والمحلي، إلا أنه قد لوحظ للباحث أنه لايوجد كتابات تتناول قيام الوقف بدور ملموس في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال، ومن ثم في مواجهة ظاهرة الغلو والتطرف، استكمالاً لدوره التاريخي الذي أداه من قبل - في هذا الإطار- بكفاءة واقتدار، ومن ثم قررت أن أتناول بالبحث هذا الدور الذي غفل عنه كثير -في ظني- ممن تعرضوا لمعالجة هذه الظاهرة، وسعوا إلى القضاء عليها، أو إلى تحجيمها على الأقل، مرتجيًا الإسهام ولو بدور متواضع في لفت الانتباه إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به الوقف في هذا الإطار عسى أن يسهم ذلك في إعادة الفاعلية لدوره الحضاري العريق.
وانطلاقًا مما سبق يمكن بلورة مشكلة الدراسة في السؤال الآتي: هل يمكن أن يكون للوقف دور في مواجهة الغلو والتطرف؟ وما طبيعة هذا الدور وتفاصيله؟
ويتفرع عن هذا السؤال عدد من الأسئلة الفرعية الأخرى التي تسعى الدراسة إلى الإجابة عنها؛ وهي:
- ما المفهوم الصحيح لكل من الغلو والتطرف، وهل هما متعارضان؟ أم يمكن الجمع بينهما؟
- ما المعيار الدقيق للغلو والتطرف؟ وهل توجد معايير عالمية مشتركة لوصف فكر أو عمل ما بهذا الوصف؟
- ما الموقف الشرعي من الغلو والتطرف بصفة عامة؟
- هل توجد نماذج دالة للغلو والتطرف في الماضي والحاضر، يمكن الانطلاق منها إلى تشخيص واضح للعوامل المؤدية إليه؟
- ما العوامل الرئيسة المؤدية إلى الغلو والتطرف؟ وما سبل علاجها؟
- ما القيم والمنطلقات الحضارية التي على الوقف الانطلاق منها في مواجهته للغلو والتطرف على مستوى الحضارة الإنسانية المعاصرة؟
- ما المقترحات التي يمكن تصورها للدور الوقفي في مواجهة الغلو والتطرف؟
ثانيًا: الأهداف والبواعث على اختيار هذا الموضوع
هناك بواعث وأهداف عدة وراء اختيار هذا الموضوع:
1-منها ما هو حضاري يتعلق بضرورة استئناف الحضارة الإسلامية لعطائها الحضاري لخدمة الإنسانية جميعًا، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه -من وجهة نظري- إلا عبر خطوات واسعة تمهد السبيل لذلك، ومنها السعي إلى استعادة دور الوقف الرائد في قيادة عملية التنمية داخل العالم الإسلامي وخارجه.
2-ومنها ما هو إنساني يتمثل في الرغبة في أن يتوقف تنامي ظاهرة الغلو والتطرف، والتي وصلت إلى حد إزهاق أرواح الأبرياء حول العالم، والاعتداء على أموالهم وأعراضهم وكراماتهم، مما يستوجب وقفة جادة في سبيل تشخيص أسباب هذا الوباء الآخذ في الانتشار على مستوى الإنسانية جمعاء، ومحاولة الحد منه عبر معالجة أسبابه قدر الإمكان.
3-ومنها ما هو حقوقي يرتبط بالعمل على تقديم دعم نظري تأسيسي للساعين إلى مقاومة إهدار حقوق الإنسان وحرياته العامة، عبر لفت النظر إلى أن التخلص من الغلو والتطرف ينبغي ألا يجري عبر غلو وتطرف مضاد، يبالغ في رد الفعل غير العقلاني؛ كما في الاعتداء على حقوق الأبرياء بحجة مواجهة الغلو والتطرف، والإرهاب الناشئ عنهما، دون أن يركز على علاج الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الداء.
هذه هي الدوافع الأساسية التي بعثت في مجملها على اختيار موضوع هذا البحث.
ثالثًا: فرضية البحث
تتركز الفرضية الأساسية لهذا البحث في أن الوقف يمكن أن يكون له دور بارز في إطار الجهود الدولية لمواجهة ظاهرة الغلو والتطرف.
والدراسة تسعى إلى اختبار هذه الفرضية عبر الحفر في الأسباب الحقيقية المؤدية للغلو والتطرف على المستوى الإنساني، والنظر فيما يمكن أن يقدمه الوقف في هذا السبيل.
رابعًا: منهج الدراسة
تبنى البحث في مجمله منهجًا تحليليًّا كيفيًّا، لكنه استعان بالمنهجين الوصفي والتاريخي في كثير من جوانب البحث، مثلما فعل عند بيان منطلقات الوقف الحضارية في مواجهة الغلو والتطرف، وكذلك عند استعراض نماذج من الغلو والتطرف في العالم، وفي إشاراته للدور التاريخي للوقف في تعزيز الوسطية ونبذ التطرف، كما استعان بالمنهج الإحصائي فيما يتعلق بتعداد ضحايا العنف السياسي والديني في الحضارات العالمية المختلفة، كأحد المؤشرات على نسبة انتشار الغلو والتطرف فيها، باعتباره أحد العوامل المتسببة في استخدام العنف.
أما المنهج المقارن فقد استخدمته في غير موضع من هذه الدراسة، وخاصة عند المقارنة بين مفهومي الغلو والتطرف ومحددات كل منهما، وكذلك بينهما وبين المفاهيم ذات الصلة بهما، وفي مقارنة دلالاتهما في الثقافتين الإسلامية والغربية، فضلاً عن المقارنة بين نماذج الغلو والتطرف قديمًا وحديثًا، وغير ذلك في ثنايا الدراسة.
خامسا: خطة البحث
قُسِّم البحث إلى خمسة فصول، تليها خاتمة، وثَبتٌ بأهم مراجعه ومصادره، وذلك على الوجه الآتي:
سيتناول الفصل الأول التعريف بالوقف وبمنطلقاته الحضارية في مواجهة الغلو والتطرف.
ثم يتناول الفصل الثاني من هذا الكتاب التعريف بمفهومي الغلو والتطرف، وبالمفاهيم ذات الصلة بهما.
بينما سيتضمن الفصل الثالث من هذه الدراسة بيانًا لبعض نماذج الغلو والتطرف قديمًا وحديثًا.
وسيتناول الفصل الرابع من هذا الكتاب استعراضًا للعوامل الرئيسة المؤدية للغلو والتطرف، ومعها السبل المقترحة للعلاج بصفة عامة.
أما الفصل الخامس والأخير فسيتناول ملامح الدور الذي سيقوم به الوقف في تعزيز الوسطية والاعتدال ومواجهة الغلو والتطرف.
ثم تتبعه خاتمة للدراسة تتناول أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها هذا الكتاب.
للإطلاع على الدراسة من هنا