المسجد عند الإنسان المسلم كلَبَن الأم عند الرضيع، يفتح عينيه على وجوده وتذوقه، وحبه وطلبه باستمرار، وعدم القدرة على فراقه، وكلما اشتاقه بكى، ولا يسكته إلا الوصول إليه. 

فتحنا أعيننا على المساجد في المدن والقرى والأحياء، فمنها الكبير والصغير، والفخم والبسيط، تختلف الصوامع والمآذن وتلتقي جميعها عند الأذان الذي يملأ الآفاق، فينطلق المصلون من جميع الاتجاهات لتجمع صلاة الجماعة في نظام بديع محكم وراء الإمام، ثم يعودون إلى أشغالهم وأعمالهم عقب كل صلاة.

هذا المسجد من كثرة الاعتياد على رؤيته وسماع أذانه وارتياده وانتشاره في كل مكان، أصبح عندنا اعتقاد راسخ أنه يستحيل أن يفتقد في يوم ما أو يحال بيننا وبينه، فهو كالهواء في الجو أو تعاقب الليل والنهار، أو رؤية الشمس في الصباح والنجوم في الليل.

فإذا بنا في ظرف زمني محدد، وبشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار أصبحنا نرى المسجد ولا نستطيع الدخول إليه، نسمع الأذان ولا نلبي لصلاة الجماعة، نَحِنّ إلى الصلاة خلف الإمام، إلى السلام على الجيران بعد الصلاة والسؤال على أحوالهم، إلى الخروج في الليلِ والبردِ لصلاة الفجر، إلى التسابق للصف الأول، إلى سكينة الدعاء في الصلاة، إلى صلاة الجمعة، إلى رؤية الخاشعين المتوسلين، إلى التذكر والتفكر والندم والرجوع إلى الله، إلى رؤية شيخ كبير يقرأ القرآن وآخر رافع يديه بالدعاء إلى الله عز وجل، إلى الخلوة مع الخالق ومناجاته، إلى إقامة الصلاة وتسوية الصفوف، إلى رؤية ازدحام الداخلين والخارجين من أبواب المساجد، إلى انصهار الفوارق الاجتماعية والدرجات العلمية، وتساوي الخلق في بيت الخالق.

فجأة نكتشف بعد إغلاق المساجد أنها نعمة من نعم الله عز وجل قد تزول بأمر منه لحكمة يعلمها، فنبقى نذكرها بحسرة ودموع ونتوسل إليه سبحانه أن يردها علينا ولا يحرمنا منها.

فهل يا ترى ضيعنا المسجد بذنوبنا؟ وهل آذيناه بتصرفاتنا وسوء أدبنا؟ وهل أفرغناه من روحه ودوره الحقيقي في الإسلام من تربية وتعليم وإرشاد؟ وهل أسأنا الأدب معه بتصرفاتنا وعدم انضباطنا؟ وهل تركناه فارغا وملأنا غيره بما لا يرضي المولى عز وجل؟ وهل أهملنا علماءه وأهله ورواده واهتممنا بأصحاب التفاهات والجهال؟ وهل تسابقنا يمينا وشمالا لغيره وجعلناه في اهتماماتنا الثانوية؟ ناهيك عن الذين يمرون عليه صباح مساء ويسمعون أذانه في كل وقت صلاة ولم يطؤوه أبدا.

الأسئلة كثيرة ومؤلمة، لكن لعل زوال هاته النعمة العظيمة يدلنا على أخطائنا وهفواتنا ويذكرنا بتقصيرنا، ويرشدنا إلى الاستدراك النقائص وتصحيح العيوب، والعودة من جديد بالمسجد إلى دوره في الحياة والمجتمع الإسلامي المنشود، ونتوجَّهَ لله عز وجل بقلوب صادقة نادمة مستغفرة تدعوه لرفع الغمة والبلاء. ويعود للأمة الإسلامية دورها الريادي بين الأمم تنشر الخير والعلم والإيمان وتربي الأجيال الصالحة المستقيمة المتميزة.