من أجمل تجليات هذا الشهر الفضيل أن تعم السكينة القلوب، وتنساب الروح بين جنبات التعبد والطاعات والمقربات جمالا ورونقا، في هذا الشهر تتجلى بوادر العظمة الرّبانية والعطاء الكريم، ففيه يجتمع الجهد والجزاء، التعب والمستراح، الترقب والانفراج، ففيه الدعوات المجابات، الطاعات السامقات، والحسنات الجزيلات.
أما عن جميل الأنس في هذا الشهر الفضيل فهو حديث أهل العلم والحكمة، فيه الموعظة الحسنة والالتفاتة المشرقة والكلم الطيب، فإذا تحدث العارف عن رمضان أمتع وإذا ذكر فضله أثلج القلوب و أبدع، لذلك جمعنا لكم في تقريرنا هذا أجمل ما قيل عن رمضان من درره وفضائله وحسناته على القلب والروح..
الغزالي.. رمضان جهاد النفس ومحطة نصر وتمكين
لذلك لا يسع مجلس الكلم هذا أن يفوته التطيب بكلمات طيبات مباركات مشرقات من حديث الدكتور محمد الغزالي قطب الدعوة ويراع الحق الساطع يقول في الشهر الفضيل ويصف رمضان بأنه ساحة التربية والتهذيب الأمثل للنفس، فيقول «فيه شرع الله الصيام للناس فطامًا لأنفسهم عن شهواتها المألوفة؛ وقهرًا لعاداتهم المستحكمة؛ وتدريبًا للإرادة في صراعها مع الغرائز السفلى؛ وإطلاقًا للروحانية الحبيسة في سجن الضرورات المتكرِّرة أبدًا؛ ضرورات الغذاء، والكساء، وكأن الإسلام يريد إشعارَ الإنسان بأصله العريق المنبثق من روح الله، ويريد تحريره من آثار الأرض، ويريد أن يجعل من أيام هذا الشهر المبارك فُرَصًا للتزوُّد من عناصر السمو، ومعاني الطهر، وادِّخار مقدار من ذلك يبقى مع المرء طول السنة، وهكذا يجيء رمضان فيملأ النفوس خيرًا وتُقًى، كلما ضعفت فيها دوافع البر والتقوى.» [1]
ويربط أيضا هذا الشهر الفضيل بمختلف المحطات المهمة في تاريخ أمتنا فيرى أنه محطة جهادية، فيها يجاهد العبد نفسه ويروضها ويلجم هواه كي لا يزيغ به عن الطريق، كما استشهد بمحطات كبرى في تاريخنا الذي شهد ربطا بين الجهاد العسكري والجهاد النفسي فكان في ذلك العديد من الغزوات «فهو في تاريخنا شهر الذكريات الحربية الخطيرة، والجهاد الموفَّق، ويبدو أن هناك تقاليد وُضعت في حياتنا العامة أيام مجد الأمة الإسلامية؛ لتربط بين الجهادين النفسي والعسكري، ولترمز إلى اقترانهما في حياة المسلم المكافح أبدًا.» [1]
الطنطاوي.. رمضان ونوافذ السّحر
ومن أفضال الشهر أوقات السحر أين يطيب للروح لقيا خالقها والتقرب منه والمؤانسة بذكره ومناجاته والتقرب إليه، هكذا حلق بنا شيخ الأمة علي الطنطاوي الذي أضاء القلوب بخواطره المحلقة وسيرته العطرة في سماء المعاني وشبه رمضان بالقمر كل يره من جانبه فقال: «للقمر جَانبين جانب مظلم وجانِب مُشرق وهذا يشبه كثيرا أحوال الناس وشؤونهم، فهناك أمور كثيرة نراها من جانبها المشرق وجانبها المظلم، فالدنيا ليس فيه خير مطلق ولا شر مطلق، فمن يرى من الصيام جانبه المظلم يرى منه الظمأ والجوع والتعب والإرهاق، ومن يراه من جانبه المشرق المضيئ، رأى فيه صفاء النفوس واتصالها بالله، والقيام في السحر فالعمر كالطريق نسافر فيه فنمر فيه على صحراء قاحلة وعلى روض مخضر ومدن جميلة، ووقت السحر في ميقات عمرنا كتلك الروضات الخضراء، فجمال رمضان يحوي من مزاياه أننا ندرك فيه السحر، ندرك صفاءه ورونقه، ففيه تفتح أبواب السماء وينادي منادي هل من مستغفر فيغفر له، هل من محتاج فيلبى حاجته.
في الأحوال العادية نغيب عن هذا الوقت أما في رمضان فتكون هناك فرصة أكثر لحضور هذا الوقت الطيب، فالمولى عز وجل يقول (إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني)
وليس أجمل من أن تلتقي دعوة العبد بإجابة ربه.»[2]
الشعراوي.. أما عن رمضان فهو لله وهو يجزي به خير الجزاء
ثم لا يفوت أي محلق في المعاني أن يغيب على حضرة يترنم فيها الشيخ محمد متولي الشعراوي بمعانيه السامقات وآيات تفسيره المعجزات حين يسترسل في شرح المعاني والدلالات التعبدية فيأخذنا إلى خصوصية ما يميز هذا الشهر الفضيل من عبادات عن غيره من العبادات فيقول:
«حِين يقول المؤمن لا إله إلا الله ويشهد بها أمام الناس أجمعين، فتلك هي الراحة له لأنه لن ينحني لأحد من خلق من غير الله، لذلك أراح الله نفسه عزة لا تذل لسواه، وحين يشهد أن محمدا رسول الله يشهد أن لا منهج إلا ما وصلنا من محمد صلى الله عليه وسلم فليس لأحد من الخلق أن يستزيد شيئا لم يأت به محمد بن عبد الله، إذن فقد أراح نفسه من أن يتلقى من مساوي له وأصبح هو والمساو يتلقون من أعلى منها وفي ذلك عزة للجميع فلا تبعية لأحد على أحد ولا استزلال لأحد على أحد.
وحين يعلن ولاءه دائما كل يوم خمس مرات، ويعلن ولاءه الجماعي كل أسبوع مرة فهنا يتعالم الناس ذل العبودية في بعضهم فلا يختبأ واحد بالعبودية ثم يبرز للناس بالجبروت، لأن الولاء العبودي أعلن للناس جميعا.
وحين يتحرك الإنسان في الأرض يتحرك لنفسه ولمن يعود ويتحرك لمن لا يقدر على الحركة تقديرا أنه إن لم يقدر الحركة يتحرك من سواه له، لذلك نجد في الغرب الكافرون بالله يضعون مثل هذا النظام فيأخذون التأمين من القادر ليغطوا له ساعة يكون عاجزا لذلك كل ذلك العمل يعود على ذات الإنسان»
بعد هاته المقدمة يبرز ويوضع لنا الفارق الجوهري بين العبادات فالصيام لله وحده ولا يليق لعبد أن يصوم لعبد أما العبادات الأخرى أن تحصل لغير الله، فالصوم متفرد بشكل العبادة لله وحده وكذلك الثواب فهو من كرم الله وحده يجزي به كيفما شاء (كُلّ عَمل ابن آدم له إلا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به)
القرضاوي.. رمضان شهر التقوى والفضائل الحسنة وينبوع الثقافة الإسلامية
أما إذا عرجنا على المعاني الصوافي التي لا زال أصحابها يعيشون بيننا ويزيدوننا من رحيقها شهدا فحق بنا أن نمر على المجدد والدكتور يوسف القرضاوي فيقول:
«هذا الشهر الكريم شهٌر أعده و فرضه الله -تبارك وتعالى- أو فرض صيامه على المسلمين، وسنَّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قيام لياليه لإعداد الأنفس للتقوى، كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فالصيام يهيئ النفوس لتتقي الله -عز وجل- ولذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. فالصوم يهيئ الإنسان لتقوى الله -عز وجل- ويبعده عن المعاصي، ويجعله ينتصر على شهوات نفسه وعلى شيطانه.» [3]
كما يشاء للدكتور أن يسمي شهر رمضان بالربيع المزهر الذي تتجدد فيه أواصر الحياة و المعارف والمدارك فهو شهر القراءة والتدبر والتأمل والمعرفة العميقة ويعتبر الشيخ الدكتور القرضاوي رمضان بأنه شهر تواصل للحياة الإنسانية «المسلمون يتواصلون في رمضان أكثر مما يتواصلون في غير رمضان، ولذلك جاء في الحديث إنه شهر المواساة، شهر الصبر، شهر تقوية الإرادة وشهر المواساة يواسي المسلمون بعضهم بعضاً. ولذلك تنتشر موائد الرحمن، كما تسمى في كثير من البلاد إفطار الصائم: "من فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" لأنه من حكم الصيام أن الإنسان يذوق حرارة العطش ومرارة الجوع، فيحس بغيره من الجائعين والمحرومين الذين لا يجدون ما يمسك الرمق أو يطفئ الحرق. فالإنسان إذا أحس بهذا رحم هؤلاء، ومد يده بالمعونة إليهم» [3]
د. السويدان.. خطوات ومعان تزين استثمارنا للشهر الفضيل
إن خواتم الكلم هي مفاتيحه التي تبقى معنا ونستأثر بها في قولنا ونستند بها في أعمالنا وكذلك نختم معانينا الرمضانية العوالي بما يقدمه لنا الدكتور طارق السويدان من نقاط تفيد القارئ خلال هذا الشهر الفضيل فلخص أجمل المعاني في نقاط خمس مهمة:
نذكر أول المعاني الجميلة التي تفيدنا في الشهر الكريم، ألا وهي التغيير، فرمضان فرصة ثمينة لذلك، كأن نغير من عادات عدة في أنفسنا، ونتوج بانتصار حقيق علي النفس وعاداتها السيئة.
ومن ثان المعاني أيضا حين نتأمل قول النبي صلي الله عليه وسلم (من هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا ومن هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة) بمجرد النية بعمل الحسنة وحتى دون عملها يكتب بذلك الخير علي العبد، فلنعمل على النية ونجددها بالخيرات.
وثالث المعاني الجميلة أيضا والتي تقودنا إليها النيات في رمضان هي الهم، أي التقدم بخطوة بعد النية، فننوي للإقدام على عمل الخيرات والتخطيط لتحقيقها، التخطيط لأعمالنا ومشاريعنا و طاعاتنا وعباداتنا.. فمن الجميل أن يكون لكل واحد منا مخطط للشهر الكريم..
أما رابع المعاني المفيدة في رمضان أيضا وهو الإنجاز، فيجب أن ننظر لرمضان نظرة مغايرة إنه فرصة غير عادية تنير حياتي من تغيير وانجاز ودرجات العالية وثواب جزيل. فأحدد ماذا أريد أن أنجز من طاعات، وقراءة كتب وتدوين، وتأليف وأعمال عالقة..
ونختم من المعاني الرمضانية الجيدة أيضا أن نسأل دوما أنفسنا سؤال"ماذا يمكنني أن أقدم لأمتي؟" وأسعي دوما نحو هذا السؤال الذي يعزز من الإرادة الفردية لإحياء حضارتنا.[4]