يعتبر مصطلح ريادة الأعمال محل نقاش مستمر بين مختلف التخصصات الأكاديمية في علم النفس والاقتصاد والإدارة. لذلك، بالنظر إلى توجه عمل الكاتب، فإن معظم النقاشات في هذه المقالة تتناول تطور نظريات ريادة الأعمال من نافذة الاقتصاد الكلي.
في مجال اقتصاد ريادة الأعمال، يمكن تصنيف تطور مفهوم ريادة الأعمال إلى ثلاثة محاور:
- المنظور المهني.
- المنظور السلوكي.
- المنظور المبني على النتائج.
ستسمح هذه المحاور الثلاثة بتسليط الضوء على الدور الحاسم للمؤسسات وبيئة الأعمال في تشكيل وتطوير أنشطة ريادة الأعمال في اقتصادات الدول.
1- ريادة الأعمال من المنظور المهني The occupational perspective
تقوم فكرة التعاريف المرتبطة بالمهنة على أن الشخص يمكن أن يكون إما موظف لصاحب العملwaged employed، أو يعمل لحسابه الخاص self-employed، أو عاطل عن العمل unemployed. من هذا المنظور فإن رواد الأعمال هم أصحاب المشاريع الذين يعملون لحسابهم الخاص. إلا أن العديد من أصحاب المشاريع الحرة يضطرون للعمل لحسابهم الخاص بسبب نقص الوظائف. لذلك نرى أن أنشطة ريادة الأعمال تنقسم إلى نوعين رئيسيين بناءً على الدافع الشخصي للأفراد:
1) ريادة الأعمال المدفوعة بالضرورة necessity-driven entrepreneurs.
2) ريادة الأعمال المدفوعة بالفرصة opportunity-driven entrepreneurs.
في هذا الإطار، تبنى هذين النوعين التقرير الصادر عن المرصد العالمي لريادة الأعمالGlobal Entrepreneurship Monitor (GEM) .
يبين التقرير أن أصحاب المشاريع قد يعملون لحسابهم الخاص لأنهم مدفوعون بالضرورة بسبب عدم وجود خيارات أخرى في سوق العمل. في حين أن هناك مجموعة أخرى من أصحاب المشاريع تحركهم استغلال الفرص الموجودة في السوق وبالتالي يكون اتخاذ القرار لبدء مشروع تجاري خيارا جديد وليس ملزما كالنوع السابق.
على الرغم من أن هذا المفهوم لريادة الأعمال، والمرتبط بعدد العاملين لحسابهم الخاص، يستخدم على نطاق واسع في قياس النمو الاقتصادي مثل قياس مستوى البطالة في بلد ما، إلا أنه لم ينجح في قياس الأعداد الحقيقية للمشاريع التجارية الناشئة أو شرح التباين الكبير بين البلدان النامية والمتقدمة في أعداد رواد الأعمال. على سبيل المثال، أظهرت بيانات العينة المستندة إلى عام 2001 أن أعلى معدلات العاملين لحسابهم الخاص كانت في البلدان النامية، مثل كولومبيا، وباكستان، وزامبيا بنسبة تفوق 40%. في حين أن المعدل في البلدان المتقدمة هو أقل بشكل كبير، مثل السويد وألمانيا والمملكة المتحدة بنسبة حوالي 10%. علاوة على ذلك، وجد العلماء أن مجموعة أنشطة ريادة الأعمال Total Entrepreneurial Activity (TEA) الواردة في التقرير العالمي لريادة الأعمال، والذي يجسد العمل الحر، يرتبط سلبًا بالنمو الاقتصادي ومؤشرات التنافسية العالمية. بعبارة أخرى، أن اقتصاد بلد معين يكون أسوأ عندما تكون المعدلات أعلى في أنشطة ريادة الأعمال. وبهذا المعنى، فإن أوغندا أفضل من الولايات المتحدة في ريادة الأعمال لأن الأولى لديها أعلى معدل في العالم.
يمكن تفسير هذا التناقض بين روح المبادرة في العمل الحر والنمو الاقتصادي من خلال حقيقة أن فكرة ريادة الأعمال في العقود السابقة كانت قد أولت اهتمامًا أقل بالبيئة المحيطة بالفرد. لذلك، لا ينظر لنشاط ريادة الأعمال الكلي الوارد في تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال في المشاريع التجارية المنتجة والتي تساهم بشكل كبير في النمو الاقتصادي، ولكن بدلاً من ذلك يعتمد التقرير على الكمية بدلا من الإنتاجية في أنشطة الأعمال الحرة.
2- ريادة الأعمال من المنظور السلوكي The behavioural perspective
لقد ازدهرت نظريات ريادة الأعمال من الناحية السلوكية منذ العمل الأساسي لريتشارد كانتيلون Richard Cantillon (1680-1734) والذي وصف رائد الأعمال بأنه رجل يسعى إلى الربح ويتحمل المخاطر ويخصص الموارد لبيع منتج يطلبه السوق. كما أكد العالم الاقتصادي شومبيتر
(Schumpeter, 1942) أن سلوك رواد الأعمال يتسم بروح المبادرة والإبداع والابتكار.
لذلك نلاحظ أن هذا الخط الفكري من فهمنا لمفهوم ريادة الأعمال يرتبط تقليديًا بامتلاك رواد الأعمال لسمات شخصية أو صفات نفسية معينة لتفسير ظاهرة لماذا يقوم بعض الأفراد وليس غيرهم ببدء المشاريع التجارية الخاصة بهم.
على الرغم من وجود بعض الاختلافات في الرأي بالنسبة إلى تعريف ريادة الأعمال من الناحية السلوكية، إلا أن هناك نوع من الاتفاق في العقد الماضي على أن ريادة الأعمال تشير إلى الأفراد الذين يستغلون الفرص الموجودة في السوق عن طريق عمليات اكتشاف وتقييم واستغلال الفرص. المفيد في هذا التعريف هو أنه يحمل العديد من الصفات الأساسية للأنشطة التي يشارك بها رواد الأعمال. كما أنه يساعد على التمييز بين الدافع الفردي للعمل الحر (كم أسلفنا في المنظور المهني) والعملية المتبعة لرواد الأعمال في توجيه طاقاتهم نحو البدء في المشاريع التجارية.
ومع ذلك، قد لا يصبح الأفراد ذوي القدرات والمهارات التجارية العالية من رواد أعمال بالضرورة. وذلك لأن قرارات الأفراد للبحث عن الفرص واستغلالها تتأثر بشكل رئيسي ببيئة الأعمال (السياق المؤسسي) التي تنظم حركة السوق. بناء على ذلك، عرّف الأكاديمي أتش ((Acs, 2014 ريادة الأعمال على أنها "التفاعل الديناميكي بين المؤسسات من جهة وبين المواقف والقدرات والتطلعات الريادية للأفراد من جهة أخرى، والتي تدفع إلى تخصيص الموارد لإنشاء وتنمية مشاريع جديدة)). يبين هذا التعريف أن المؤسسات لديها تفاعل مستمر مع سلوك الأفراد بحيث يمكن لبيئة الأعمال أن تحفز رواد الأعمال ليكونوا أكثر إنتاجية للمساهمة في النمو الاقتصادي.
3- ريادة الأعمال من المنظور المبني على النتائج The outcome perspective
حددت النظريات الاقتصادية الحديثة مفهوم ريادة الأعمال من خلال النتائج التي تساهم فيها الأنشطة التجارية في النمو الاقتصادي. تقوم هذه الفكرة على أساس أنه ليس كل أنواع أنشطة ريادة الأعمال ضرورية للنمو الاقتصادي. على وجه الخصوص، اقترح العالم بومول (Baumol, 1990) أن أنشطة ريادة الأعمال موجودة في جميع البلدان. ولكن، قد تظهر نتائج مختلفة من أنشطة ريادة الأعمال في سوق معينة. قد تشمل مشاريع ريادة الأعمال الأنشطة المنتجة للاقتصاد productive مثل شركات التكنولوجيا أو غير المنتجة unproductive مثل شركات الاحتكار والمنتفعة من الحكومة أو المدمرة destructive مثل الشركات الغير قانونية كتجارة المخدرات وغسيل الأموال.
رائد الأعمال المنتج هو الذي يساهم في الاقتصاد من خلال تقديم بضاعة أو خدمة جديدة أو تطوير واستخدام أساليب حديثة لإنتاج أو تقديم السلع والخدمات الحالية بتكلفة أقل.
مصطلح ريادة الأعمال في العصر الحديث
بناء على المناقشة السابقة، يتم تداول مصطلح ريادة الأعمال في وقتنا الحالي للإشارة إلى أصحاب المشاريع المدفوعين باستغلال الفرص التجارية والذين يقودون التغيير الاقتصادي من خلال إنشاء شركات إبداعية جديدة. يؤدي التعريف السابق للعالم ناودي (Naudé, 2011) إلى تفسير أكثر تحديدًا لكيفية تأثير سلوك "اكتشاف واستغلال الفرص" على النمو الاقتصادي من خلال إنشاء شركات تجارية جديدة. وبالتالي، فإن عملية ريادة الأعمال تنطوي على سلوك استغلال الفرص وكذلك إنشاء شركات ناشئة جديدة، سواء كانت ناجحة أم لا.
هذا الفهم لمصطلح ريادة الأعمال قد تم دعمه مؤخرًا من قبل العالم المعروف أتش (Acs, 2018) والذي عرف بدوره رائد الأعمال بأنه شخص ذو رؤية ولديه القدرة على تحويل أفكاره الإبداعية إلى مشروع تجاري في السوق. وأضاف أن رواد الأعمال هم الجسر الذي يربط بين الاختراعات والعمل التجاري.
ذلك لأن الأفكار المبتكرة بدون ريادة الأعمال تبقى في المختبر الجامعي أو مراكز البحث والتطوير، فإن رواد الأعمال مثل ستيف جوبز (مؤسس شركة أبل) وجاك ما (مؤسس شركة علي بابا) يمتلكون رؤية تمكنهم من سد ثغرة في السوق من خلال تقديم منتج أو خدمة جديدة للعملاء.
علاوة على ذلك، ساعد تعريف العالم أتش على التمييز بين أصحاب الأعمال الصغيرة الذين تحركهم الضرورة (ليس لديهم خيارات أخرى في سوق العمل لكسب المال وتقليد ما يفعله الآخرون) ورواد الأعمال المدفوعين باستغلال الفرص والنجاح التجاري. في حين أن رواد الأعمال المدفوعين بالضرورة كأصحاب المحلات التجارية الصغيرة مثل البقالة والخضار وخدمات التاكسي وغيرها ضروريون لخلق الوظائف والدخل لعائلاتهم، فإن الباحثين يولّون اهتمامًا أكبر برواد الأعمال الذين تحركهم استغلال الفرص بسبب زيادة فرصهم في تحقيق نجاحات تجارية أكبر مع قابلية للتوسع وخلق فرص عمل حقيقية. هذا التمييز بين هذين النوعين ضروري لأنه يمكن فقط لريادة الأعمال الابداعية والموجهة للنمو السريع أن تساهم في النمو الاقتصادي.
في الختام
نقر في هذه المقالة بأن اعتماد تعريف ريادة الأعمال على أنه إنشاء مشاريع تجارية جديدة له حدوده في المراجعة الكاملة لأدبيات ريادة الأعمال. على وجه التحديد، لم نأخذ في عين الاعتبار أنواعًا أخرى من ريادة الأعمال عالية النمو مثل ريادة الأعمال في الشركات corporate entrepreneurship، والتي تشير إلى "مبادرة الموظفين في المنظمات للقيام بأنشطة تجارية جديدة". بعبارة أخرى، فإن ريادة أعمال الشركات هي نوع خاص من ريادة الأعمال "المنتجة" والتي تشمل على عدة جوانب مثل البحث عن أسواق جديدة، وتوليد الأفكار الإبداعية، وتصميم منتج جديد، وبناء التحالفات الداخلية أو الخارجية، وإدارة الإقناع، والحصول على الموارد، والتخطيط والتنظيم وغيرها من الأعمال الريادية التي تساهم في زيادة أرباح الشركات.
تماشيا مع النقاش السابق حول ريادة الأعمال في الشركات، وجد العالم أتش علاقة على شكل حرف S بين نشاط ريادة الأعمال والنمو الاقتصادي. أشارت هذه العلاقة إلى أن المعدل المتزايد لنشاط ريادة الأعمال ينخفض في نهاية المطاف بين الدول المتقدمة. ربما يُسمح لرواد الأعمال في البلدان المتقدمة "بالتصرف بحرية أكبر" داخل المنظمات القائمة، ويتلقون تعويضات مالية مقابل القيام بذلك مثل شركات جوجل وتسلا ومايكروسوفت. لذلك فإن الأفراد في هذه الاقتصادات أكثر ميلاً لاختيار الوظيفة ذات الأجور المرتفعة.
نتيجة لذلك، فإن المعدلات المتزايدة لريادة الأعمال في الشركات قد تحل محل النشاط التجاري الجديد في ظل هذه الظروف الاقتصادية. هذا التمييز بين الشركات الناشئة الجديدة وريادة الأعمال في الشركات ضروري لأن هناك عدة أنواع من ريادة الأعمال التي تساهم في النمو الاقتصادي والتنمية.