لما طرحت السؤال حول سبب عدم مغفرة الله للشرك به إنما كان رغبة مني في اكتشاف إن كان من يشاركني الخواطر التي تسكنني منذ سنوات، وخصوصا منذ اطلاعي البسيط على الإنتاج العلماني ثم من تعرض له بالتفكيك والنقد، لقد أصبحت أرى أن القول بأن التوحيد حقّ لله على العبيد وأنه سبحانه الخالق ولا ينبغي صرف العبادة لغيره -أقول- أصبحت أراه قولا لا يحيط بكامل حقيقة خطورة الشرك، وأن تقديم صور الشرك القديمة البائسة التي تكون حول القبور أو ما شابهها قد تجاوزها الزمن لشرك أعظم تغرق فيه البشرية!، وحقيقة الشرك لم تتغيّر منذ الأزل، وهي إحلال الإنسان محور الكون بدل الإله!

كثيرا ما أتدبّر في إفساد الآيديولوجيات التي مثّلت لحظات تجلٍّ للعلمانية في التاريخ الحديث، كالنازية والشيوعية وما تفرع عن هذه الأخيرة من الماوية والجوتشية في كوريا الشمالية والتي تعني عبادة الإنسان وتقريره لكل شيء، وانظر قبلها إلى الديانات الوثنية والتي بقيت منها بيننا اليوم، بل أخبرني أحد العارفين بالشأن "الديني" في أوروبا أن هناك انتشارا للمعتقدات الوثنية حتى في أوروبا في العصر الحديث.

كل هذه العقائد الفاسدة وغيرها تنطلق من ذاتية الإنسان وشهواته وفكرة كونه محور الكون، والذي يجب أن يخضع كل شيء لإرادته ولتلبية شهواته، ولو صوّر ذلك في صورة "دين" و"صنم"، سيعبد هذا "الشيء" الذي لا يأمره ولا ينهاه، وما يعبد في حقيقة الأمر إلا هواه الذي زيّنه له الشيطان في صورة "صنم".

دعونا ننظر إلى أعمق من هذا لنشاهد ثلّة من أفسد البشر نصّبوا أنفسهم آلهة تستبعد البشر بمنطق الدولار!، ونصّبوا المرأة تجسيدا لشهوات البشر، هؤلاء اليوم من يحكمون العالم ومؤسساته، ويضعون سياساته، وجرفوا عالما غربيا بلغ أرقى المراتب العلمية إلى متاهة "الجندرية"، فصرنا نراهم يناقشون باحترام واهتمام رجلا بلحية كثّة يعرّف نفسه كامرأة!، وامرأة تعرّف نفسها كرجل!، ويأتون بثالثة لا تعتبر نفسها أنثى ولا ذكرا!، ويزوّجون الإنسان بالحيوان!، ويقرّون بحقّ أن يضع الإنسان معلوماته في موقع بيع الحيوانات ويعرّف نفسه أنه "كلب"!، وقد يقاضيك لو عاملته كإنسان!

العلمانية أو هذا الطاغوت الأكبر الذي يواجه البشرية قتل ملايين البشر!، قتل الاستدمار الأوروبي العلماني في بلداننا الملايين! وقتلت الأنظمة الأوروبية العلمانية في الحرب العالمية الأولى ثمانية ملايين ونصف مليون إنسان!، وقتلت النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية ستين مليون إنسان! ونُشرت تقارير سوفيتية سرية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي تشير إلى أن عدد ضحايا القمع في نظام ستالين الشيوعي بلغ تسعة ملايين.. بينما يشير محلّلون ديموغرافيون إلى أن العدد يبلغ عشرين مليونا! ويُقدّر عدد من قتلتهم الآيديولوجية الماوية في الصين بعدد سكان فرنسا عشرين مرة! الحرب الكورية التي أدت إلى انقسام شبه الجزيرة خلّفت أكثر من مليون ومائتي ألف قتيل. ومجاعة كوريا الشمالية في تسعينيات القرن الماضي قتلت أكثر من مليونين ونصف مليون إنسان! بينما كان حاكم كوريا الشمالية "المتألّه" المعادي للغرب يرسل طائرته الخاصة لتأتيه بوجبة من ماك دونالدز الأمريكية ساخنة! وتشير أرقام أصدرتها مؤسسات غير حكومية غربية إلى أن الحروب الغربية على المسلمين قتلت زهاء أربعة ملايين مسلم بين عامي 1990 و2010 .. بين أفغانستان والعراق!

وما ترونه حادثا اليوم في غزة لحظة مهمّة من لحظات التجلّي العلماني.. حيث تهاوت أمام أنظاركم كل الدعاوى الإنسانية الزائفة لتظهر وحشية "تألّه البشر"!

كل هذا الفساد جاء من عقيدة أزاحت فكرة محورية الله في الكون لتُحلّ محلّها الإنسان، وقد يتلبّس هذا الإنسان تارة بدثار الآيديولوجية والدولة وغيرها من الصور التي يتمثّل له فيها الشيطان، لكنها محورية الإنسان لأنه منتج الفكرة وصانع الدولة ولأنه هو النظام الذي يريد المحافظة عليه مهما أفسد في سبيل ذلك، لهذا قال سبحانه عن المشرك: ((أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه))، فالرأسمالية والليبرالية والاشتراكية والشيوعية وسمّ ما شئت من آيديولوجيات هي هوى الإنسان واختياراته وأفكاره!، وكلها صور للعلمانية التي ألغت الإله وأحلّت محلّه الإنسان!، والفساد البشري في هذا النموذج غير الفساد البشري الذي قد يقع في النموذج الذي يكون فيه الإله هو المحور، قد يبدو لنا الزنا في النموذج الأول هو الزنا في النموذج الثاني، لكن حقيقته في النموذج العلماني يتخذ صورة "الحريّة" بينما يتخذ في النموذج الإلهي صورة "الخطيئة"، وبين أن تفعل الفعلة وأنت تعتقد أنها حرية أو تعتقد أنها خطيئة فرق شاسع!، النموذج الأول لن يجعلك تتراجع بينما النموذج الثاني ستسعى فيه لإصلاح حالك! .. القتل في النموذج الأول "ضرورة ثورية" والقتل في النموذج الثاني "جريمة عظيمة" لأنها مساس بخلق إلهي مقدّس وهو الروح .. 

ولو نظرنا في النموذج الجاهلي لوجدنا حروبا تدوم لعقود ويموت فيها الآلاف لا لشيء إلا لعنتريات شخصية وأحقاد غابرة وما حقيقتها إلا الانتصار لذاتية هذا الإنسان! وما المرويات الجاهلية في التفاخر بالأنساب إلا دليل على أن المنظومة الشركية منظومة جعلت من الإنسان المحور بدل الإله .. حتّى نزل قوله تعالى: ((فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذِكرا)).

وهذا يشير إلى أن فلسفة الإسلام تريد أن يكون الإله هو محور الحياة والوجود وليس الآباء والأجداد أو بتعبير آخر الإنسان! .. وقد تعرّف الله سبحانه إلى عباده بنعمة الخلق والإنشاء وتسخير الكون لهذا الإنسان .. لا يكون السيّد والمحور بل ليكون المولى سبحانه هو محور وجود الإنسان لكي لا يطغى وليبقى مسترشدا بالهدي الإلهي في عمارة الأرض وعبادة ربه سبحانه .. لذلك كان الفساد الناشئ عن الشرك أكبر فساد يمكن أن يقع في هذا الكون! .. فشدّد المولى تبارك وتعالى فيه الوعيد بأنه لا يغفر أن يٌشرك به، ليس فقط لأن فيه منازعة لكبريائه وجبروته سبحانه بل حماية لهذا الإنسان من شرور نفسه وحفظا لهذا الكون من فساد لا يخطر على بال أشقى الشياطين!

هي خواطر تنتابني منذ فترة وتبقى الإجابة ظنّية ويبقى الشرك هو أعظم ظلم مُنِِيَ به الإنسان في التاريخ!