على الرغم من أنه لا يحق لأي أحد أن يسأل الآخر لماذا يسعى نحو امتلاك حريته كاملة غير منقوصة، ذلك أن الإنسان ولد حرا وما ينبغي أن يسأل عن رغبته في استرجاع ما ولد عليه إذا شعر بأنه سلب منه، لكن لو نظرنا إلى الموضوع من زاوية مختلفة حتى نجعل للحرية معنى متجاوزا لمعناها التجريدي من جهة، وحتى لا نقع فرائسا سهلة يغريها مصطلح الحرية البراق، حتى وإن كان جلدا يسلخ عند أول منعرج قد نجر به إلى مسالخ لا نعلمها، فإنه يحق لنا فعلا التساؤل:

لما علينا أن نسعى نحو مزيد من التحرر؟ لما علينا أن نبذل كل تلك التضحيات من أجل الحرية؟ هل الحرية مقدسة لذاتها فلا يجوز البحث فيما وراء ذلك أصلا؟! أم أنها مقدسة لما يترتب عليها من أمور تجعل السعي الحثيث لامتلاكها كفاحا مقدسا؟!

في الحقيقة يصعب التحيز إلى إجابة بعينها لهذا التساؤل، ذلك أنّه يمكن لقائل القول بأنّ مجرد التحرر يعتبر مكسبًا يستحق السعي بصرف النظر عما يمكن أن يتبعه من مكاسب، بل يمكن القول أن التخلص من آثار العبودية مكسب حقيقي لا يسأل عما يتبعه، لكن ماذا لو نظرنا إلى أبعد من ذلك لنرى بشكل أفضل. 

 

الحرية أن يحطم الإنسان كل القيود التي تقف حاجزا دون بلوغه مبلغ الاستخلاف في الأرض الذي يعطي لإنسانيته معنى ولوجوده سببا..

ألا يعني سعي الإنسان للحرية أنه يريد الفكاك من قيود تمنعه من إنجاز هدف ما يستحق أن يبذل دونه الكثير من التضحيات؟ الحرية تختلف عن العبثية حين توضع المسؤولية بينهما، ففي القرآن يقول الحق تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [1]، ويقول أيضا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [2] في إشارة إلى المسؤولية التي تفرق بين الحرية و العبثية..

الحرية أن يحطم الإنسان كل القيود التي تقف حاجزا دون بلوغه مبلغ الاستخلاف في الأرض الذي يعطي لإنسانيته معنى ولوجوده سببا، بينما العبثية أن ينفلت الإنسان من كل الالتزامات ويتخلى عن كل المسؤوليات فيتحول إلى عديم المسؤولية ويتوهم أنه حر، هذا على الأطراف، وما بين ذلك أمور عدة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، فكلما اتجهنا إلى الحرية، نحن في الحقيقة نتجه نحو المسؤولية، وكلما اتجهنا إلى اللامسؤولية والانفلات، نكون قد اتجهنا نحو العبثية. 

هذا يعني إذا أردنا أن نلخص الفرق بين الحرية والعبثية فإننا نلخصه في الفرق بين الالتزام والانفلات، إذ لا حرية بلا التزام، وليس من عبثية أكثر من الانفلات!