يهل علينا كل عام شهرٌ فيه ليلة خير من ألف شهر، أي عمر بأكمله، يأتي ليجدّد للمؤمن عقيدته في أيام نفحات: فريضة ورحمة، عبادة ومغفرة، تهجد وعتق، شهر يجدّد للأمة معرفتها برسالتها فتجتمع على خير وبر وعبادة وتستشعر أمانتها تجاه عالم الغيب وعالم الشهادة، أيام جلاء للفطرة وشحذ للوعي برسالة التوحيد الخالص لله تعالی، وقراءة للوحي، واتباع لهدي المصطفى واستباق للخيرات.

والحق أن رمضان مدرسة جامعة، ففيه أداء شهادة العقيدة المتجددة، لأن الصوم صلة بين العبد وربه، هو لله وهو يجزي به، وفيه صلاة القيام تُقوي معنى إقامة الصلاة في حياة المسلم، وفيه ترويض الجسد وتهذيبه بالامتناع عن الطعام وعن الشهوات في نهار رمضان فلا رهبانية في الإسلام، بل فيه هذا الجهاد المتجدد المشتبك مع الكدح، وفيه تجديد النية، وفيه معنى التزكية للذات وللمال بنافلة تزيد على الفريضة، كما يختار البعض أداء زكاته في رمضان ليزيد الله له في الأجر، وفيه توجه المسلمين للقبلة وتوحيدها برابطة عبادية وروح ربانية وتهذيب للألسنة والأفئدة، ففيه ملمح من فيوضات الحج ودروسه، والهجرة ومعانيها.

رمضان مراجعة لمسيرة التاريخ، ففيه تذكرة بنزول الوحي، وبنصر الله للمجاهد الصائم في بدر، وأمة لا تعرف تاريخها فتُفاخر بانتصاراته وتتعلم من دروسه وتسترجع فلسفته وتجدد أمره هي أمة منبتة الصلة بجذورها تسيح في تيه "الآن وهنا"، الإسلام برؤيته للتاريخ: مبتدأ، رُجعى، أزل.. وأبد، دورات وسنن، تدبير حكمة، وجدلية تدافع ومسعى تعارف، إرادة الإنسان ومدد الله، قوة الحق وضعف كيد الشيطان، عزم أولي البصيرة ووهن وهوان إرادة الباطل.


فمنطق رمضان يستدعي الغيب لساحة المادية ليحقق فلسفة الميزان، مثلما الحج تذكير بأنبياء الله ومسيرة الإسلام وشعائر الله عبر النبوات ومسار دعوتها في التاريخ، فالرؤية الإسلامية تحتفي بقيمة التاريخ وتواصله كما تحتفي بالزمن وفلسفته، وبالروح ومركزيتها، فتلك الأيام هي «أیام الله» ، وكل الأيام أيام الله، منها أيام الابتلاءات ومنها أيام الآيات ومنها أيام النفحات، والله فضّل بعض الأيام على بعض، وبعض البقاع على بعض، وبعض الأفعال على بعض.

يصوم المؤمن في رمضان ويجاهد جهاد النفس في موسم من مواسم المغفرة، فيدرك أن الزمن ليس آلة ميكانيكية تدق بإيقاع رتیب بل هو فيض من اللحظات وعطاء من الإشراقات، وهو رأسمال العمر، ومنه ليلة هي بعمر، فيملا أيامه ولياليه بالطاعات، والاستغفار عما فات.
رمضان استعادة لمركزية الغيب في التصور الإسلامي، ذلك الغيب الذي يوقن به المسلم فيدفعه إلى التخلي عن المُتَع العاجلة ابتغاء مرضاة الله، ولولا ذلك لما كان للصوم قيمة، فالإنسان الذي يسعى إلى المتعة العاجلة وتعظيم منفعته المباشرة المادية، لا يرى في الصوم إلا معاناة لا جدوى منها ولا طائل من ورائها، فالصوم مدرسة اليقين وأحد مدارج السالكين في عالم مركزية "الأنا"، وتلبیس منطق الحياة وهوس المتعة الاستهلاكية، فيأتي رمضان ليكون ومضة نورانية تعيد توازن الدنيا والآخرة، من «الأنا» إلى الأمة، ومن الـ «هنا» إلى الملأ الأعلى.
وهو شهر يجتمع فيه الناس على الإفطار والسحور فتوثق عرى الأسرة وتتواصل الأرحام وتنصهر الفوارق، وتسري في الجماعة روح من البر والمودة والتراحم، فيدرك المسلم أن فردية الصوم في علاقة الفرد بربه موصولة بجماعية المقاصد، فالإسلام يری خلاص الفرد يوم القيامة عبر صلاح الجماعة، ويكرس في فرائضه هذا التلاحم بين الفردي والجماعي والخاص والعام، والعبادي والاجتماعي، والخير المبسوط الكف لمن لا نعرف من عرب وعجم، مسلمين ومؤمنين من أهل العقائد الأخرى، ففلسفة الصوم مشتركة بين الأديان والأوطان مساحات جامعة لتجليات الشعائر "شعائر الله".
فرمضان مفردة من نموذج توحيدي جامع متكامل، وهو في الوقت ذاته يحمل في داخله كل عناصر هذا النموذج مصهورة ومصقولة، ومن الأهمية بمكان أن يفهم الإنسان المسلم أن كل مفردة من مفردات الجزء تحمل مجمل خصائص الكل كما تحمل الخلية في جسد الإنسان بصمتها الجينية وخريطتها الكاملة، لذا فإن معاني رمضان تسري في غيره من العبادات والشعائر.
بقي أن نستوعب أن رمضان شهر للنهضة، فمفتاح النهضة في الرؤية الإسلامية وعي وتعاون وقيام وقوامة وحساب لقيامة:
وعيٌ برسالية المسلم ومسؤوليته عن العالم، وكيف ينهض بالعالم بغير قلب موصول بالله وروح نستلهم منه القوة؟
تعاون على الحق والصبر، وكيف تنهض أمة تتشظى أفرادًا وأحزابًا فلا تصطف كالبنيان المرصوص؟ هذا الاصطفاف الذي ترمز له صفوف المصلين في ساحات المساجد قيامًا ورکوعًا وسجودًا .
قيام بالأمانة، فكيف يقوم بالقسط ويقوم له ليكون شهيدا على الناس من لا يستطيع أن يقوم مصليًا فيقهر کسل النفس وأثقال الجسد ويصبر على العبادة ويتخذ منها الزاد ليكون من القوامين الشهداء
وتذكرة بالقيامة، واستشرافٌ لعالم الغيب، فتجلو العبادة مرآة الروح ليبصر فيها المؤمن ما لا تراه العيون فتكون جائزة الدنيا: «ليلة القدر» هي قبس الغيب بملائكته ورحماته القدسية ، وبشرى في يوم قيامة يحصد المسلم فيه ما زرع من لحظات عبادة، فمن دون وعي بالقيامة وتلمس لسر الروح لا تصبر أمة على العدل والعمل، وشتان بين سعي وعمل ابتغاء الدنيا وبين سعي وعمل من أجل حسن ثواب الدنيا والآخرة: لي وأنا أجزي به.

رمضان ليس شهر عتق الأفراد من النار فحسب، إنه أيضا شهر عتق الأمة من غرور الدنيا مع ردها في الوقت نفسه إلى الوعي بحضارتها وحضورها في العالم، وهو معين لا ينضب من المعاني التي تقترن بمقاصد الشرع، فإن أقامت الأمة صيامها كما تقيم صلاتها وتدفع زكاتها، ووفت بشروطه، كان من حقها أن تحتفل بعده، جمعاء بأيام عيدها.