الإحتفال برأس السنة الميلادية (رأس العام) أصبح ظاهرة عالمية، لم تستطع الفتاوَى المتلاحقة، والمتجدّدة، المُحرّمة لها، والمحذّرة من تبنّيها، أن تَحُدَّ من إنتشارها، أو تقلّل من تنامي عدد مُريديها في عالمنا العربي. فقد أصبحت بمثابة "إنفلونزا "، تجتاح عقول الشباب، وتستهوي قلوب العامّة، غير عابئة بالحدود الجغرافية، ولا الخاصيات الثقافية، ولا الإختلاف العقائدي. 

هو في تعريفه: إحتفالٌ بتوديع عام ٍمضى، وإحتفاءٌ وإستقبالٌ لعام جديد، يُرادُ له أن يكون مَوعدًا صاخبًا، وصارخًا، مُنفلِتًا من كل قيود التحريم، وكافِرًا بكل لاءات المَنْع ومُستبيحًا لكل مستفزّات الغرائز، ومُحلِّلًا لكل صيَغ الشهوات.

قال أحد عمّالنا بالخارج، وهو متقاعد، وله خبرة ودراية بالغرب، اكتسبها بعد 40 عاما عاشها في أكنافه، وساح بين تضاريسه، قال: "هل تعلم أن أعراف الشغل، ومديري المصانع فرحون جدًا، ويستبشرون كثيرا إذا تزامن يوم رأس العام بيوم عطلة الأحد مثل هذه السنة، لأنهم لن يدفعوا شيئا للعمّال والموظفين، بينما لو صادف حلوله يوم شغل عادي من أيام الأسبوع، فإنهم مجبرون على إعطائهم يوم راحة مدفوعة الأجر. "

وما يمنع الغَرْبِيَّ أن يحتفل؟ وأن يجعلها ليلة متميّزة في السهر واللهو، والإستمتاع المفتوح وإطلاق غرائزه ترتع بلا قيد ولا شرط، وهي من عُرفهم، وثقافتهم المنفلتة من قيم الحياء والفضيلة، قلت ما يمنعه أن يحتفل بتوديع عامٍ يكون قد ملأه شغلا، وفعلا، وإنتاجية وأنجز المطلوب منه، ولم يقصّر في أداء واجب، ولم يتقاعس عن أداء فريضة وطنية تمليها عليه مصلحة بلاده، وبإستقبال عام يكون قد هيّأ له جدول أعماله، وأسباب نجاحه، وطُرُق حُسْن إستثماره؟

فالمواطن الغَرْبي يتميّز بأنه يقدّس الانضباط الإداري والوظيفي، ويبدع في إحترام الوقت ويحسن إستثماره، ويتقن شغله، ولا يتكاسل عن بذل المطلوب منه، ويؤدي كل ما عليه في إطار العقد الإجتماعي والوظيفي، ليس هذا نفخًا في صورته، وتزكية له بغير حق، وإنما هو ممّا أدّبنا به القرآن بقوله " ولا تَبْخَسُوا الناسَ أشياءَهُم ". 

فالمواطن الغربي قد تربّى، وتكوّن، ونُحِتَ، وصُقِل على أن يسير دائما ويتحرك وفق رزنامة، وخارطة طريق لِجِدّه وهَزْلِه، وأن يُرَتّب لكل شيءٍ يريد إنجازَه شرًّا كان أو خيْرًا وأن يُعطي لكل شيء حقّه، فضيلةً كانت، أو رذيلةً. ولا يتعامل مع الأشياء وفق منطق مرحليّة البثّ التجريبي الفضفاض، وشهوة إغتيال الوقت، وإهدار الطاقة فيما ضرُّه أكبر من نفعه، وفيما شرُّه يمحق خيره، ولهذا تراه ينتظر هذا الموعد السنوي "ليلة رأس العام" لينفّس عن المكبوت عنده وفق منطقه اللاّديني، ويُسعد نفسه على طريقته.

بينما زميله "العَرَبِي" الذي يحرص في أن يكون إمَّعَةً له فقط، في المنكر، والإنفلات الغرائزي والعقائدي، بينما يستنكف عن أن يتأسّى به، أو ينافسه في بعض ما يرتبط بالجدّ والواجب والبرمجة والفعالية والمواطنة الفاعلة، فأنّى له أن يحتفل ويمرح؟ وهو لم ينجز عملا، ولم يراع واجبا، ولم يترك أثرا. بل تراه قد تفنّن في إهدار وقته، وإستنفذ طاقته في سَفْاسف الأمور؟

الفرق بينا وبين الغرب، كالفرق بين شخص يزحف على بطنه وشخص يركب سيارة رباعيّة الدفع، الوقت عند الغربيين يعنى الثروة والمال، والوقت عندنا نتفنّن في قتله وإهداره.

المواطن الغَرْبي لا يلعب ولا يلهو إلا في عطلة نهاية الأسبوع، يعمل 8 ساعات بتركيز وجدّ، ووَعْي، يضبط وقت نومه، ويحرص على ساعة استيقاظه، بينما نحن طوال الأسبوع، نلعب ونلهو غافلين، مع اللامبالاة في إحترام وقت النوم واليقظة. (جيفة بالليل، حمار بالنهار كما ورد في الحديث) 

تقول بعض الإحصائيات إن المواطن العَرَبي ينفق 60% من وقته هَدْرًا دون إنتاجية، فهو يستهلك 36% من وقته في هضم ما تبثّه القنوات والإعلام المائع، وصفحات التواصل الإجتماعي. و يُبَعثر 28% من عمره في أشياء لا قيمة لها. بينما زميله الغَرْبي تراه يمسك بيده كتابًا أثناء وقوفه في المترو، أو وهو ينتظر الحافلة، مستثمرا تلك الدقائق القليلة في التزوّد المَعْرفي. 

وقد كشفت دراسة أجرتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد، أن معدّل وقت العمل الفعلي للموظف التونسي، الذي يقضيه في وظيفته، لا يكاد يتجاوز 8 دقائق في اليوم ويعتبر مُعدّلا دون المستويات العالمية.

وأشارت الدراسة، وفق ما نشرته صحيفة" الضمير" في عددها الصادر يوم 02 أفريل إلى أن: " أيام عمل الموظف التونسي لا تتجاوز 105 يوم من أصل 356 يوما، مضيفة أن نسبة غياب الموظفين داخل الإدارة التونسية إرتفعت بنسبة تقدر بـ 60%. "

كما أظهرت الدراسة أن: "نسبة الموظفين الحاضرين بصفة قانونية في مراكز عملهم والمُتغيّبين ذهنيًّا بلغت 80%، مشيرة إلى أن مُوظَّفا من بين 5 موظفين فقط يعمل، والبقية يكتفون بالحضور(دون إنتاجية)؟ ". وأكد رئيس الجمعية التونسية لمكافحة الفساد أن نسبة الغيابات في القطاع العام بلغت 90%؟

فكيف يطيب الإحتفال والمرح والفرح واللّهْو، لمن هذه سيرتُهم وحالُهم، وفضائحُهم؟ إنما يحتفلُ، أولئك الذين أنجزوا عمَلًا، وأدّوا واجبًا، وتركوا أثرًا، ونفعوا وطنا.