في هذا المقال نريد أن نلفت النظر إلى نقطة مهمة جدا متعلقة بالوعي الإنساني وعلاقته بالعطاء، وتأثير ذلك في ما يمكن أن يقدمه الإنسان من إنجازات فاعلة تساهم بشكل مباشر ومدروس في دحرجة عجلة النهضة الحضارية الشاملة التي يمكن أن نسميها البحر الذي تنتهي إليه كل الأنهار.
إذا ما دققنا النظر سنكتشف أن كل ما ينجزه الانسان من إنجازات مختلفة سواء كانت إنجازات مادية ملموسة أو إنجازات قيمية ذات طابع غير مادي فإن ذلك الإنجاز نتيجة طبيعية لمنظومة من نوع ما ويأتي في سياق معين في أحد أجزائها، بصرف النظر تماما عما إذا كان صاحبه يدرك ذلك بشكل مفصل أم هو مجرد منفذ تم استلاب إرادته بشكل اختياري.
لا تحدث الأمور في هذه الدنيا بشكل اعتباطي مهما يبدو لنا الأمر كذلك. فكثير من البشر يساقون لتنفيذ ما يريده الآخرون وهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك أحرارا. لذلك نريد هنا أن نوضح بشكل مبسط كيف يمكن أن يكون الإنسان واعيا بالمنظومة التي هو منخرط فيها حتى تكون أعماله كلها متناسقة مع المنظومة التي يرتضيها بشكل عام، وحتى يتمكن بشكل دقيق من فهم السياق المباشر الذي يندرج ضمن إطاره هذا العمل التفصيلي الذي يقوم به الآن.
يمكن أن نأخذ هذا المقال كمثال على ذلك حتى نفهم بشكل أكثر، فأنا أخط هذا المقال وأنت تقرأه، أنا أكتب في سياق محدد وأعتقد أنني أيضا منخرط في منظومة معينة، بينما أنت تقرأ هذه السطور وأنت بكل تأكيد منخرط في منظومة ما، وقراءتك لهذا المقال من المفترض أيضا أنها تأتي في سياق محدد.
لنزيد من توضيح المثال، أنا أكتب هذا المقال لأنني أعتقد أن المنظومة التي يمكن أن أشبهها كمحرك، أعتبر نفسي قطعة غيار صغيرة تؤدي دورا من نوع ما داخلها. فهي منظومة النشاط الفكري التي تستهدف الوعي الحضاري الذي يشتغل لأجل إعادة النهضة الحضارية الاسلامية الشاملة. هذا الجزء متعلق بالمنظومة.
و كتابتي لهذه السطور في هذه اللحظة هو فعل اجرائي جزئي من هذه المنظومة يأتي في سياق السعي إلى تنمية الوعي الفكري لدى الشباب الذين قد ينخرطون في أعمال هم يعتقدون أنها جزء من منظومة فكرية معينة لكنها قد تأتي في سياق مختلف تماما ممكن ينحرف مجراها وتصب في منظومة مناقضة تماما. لذلك كتبت هذا المقال بهذا التفصيل حتى ندقق في مؤشر البوصلة الذي يشير إلى المنظومة العامة من جهة. ونعيد التدقيق فيه في كل عمل اجرائي نقوم به مهما كان بسيطا حتى نكون على وعي دائم بعلاقة السياق بالمنظومة وبناء عليه فقط نستمر في العمل أم نعيد تصحيح المؤشر من جديد.
قد يطرح أحدهم سؤالا: هل يمكن أن يكون الإنسان مستقلا بشكل كلي فلا ينخرط في أي منظومة؟ الجواب لا، هذا مستحيل. مهما كان فعل الانسان ومهما كانت طريقة تفكيره مستقلة تماما. فإن منتهى عمله سيصب في نهاية المطاف في منظومة معينة حتى وإن كان هو على عداء معها.
كل ما في الأمر أن الإنسان قد يرفض الاعتراف بالانخراط في منظومة معينة بلغة دبلوماسية حتى يحقق مزيدا من الأهداف. هذا إن كان يعي بشكل جيد ماذا يفعل. وقد يكون مجرد آلة تعمل وهي لا تعي شيئا مما تعمل. وهناك منظومة ما تحصد ثمار جهودها.
لذلك مادام الأمر في نهاية المطاف لا بد أن يصب في منظومة ما. فالأجدى والأحسن والأقرب إلى الإنسانية المكتملة أن يفعل الإنسان ذلك عن إرادة ووعي.
هناك سؤال آخر؛ هل يمكن أن يكون الإنسان منخرطا في عدة منظومات.
الجواب نعم هذا ممكن. لكن الوعي النافذ هو الذي لا يجمع بين منظومات متناقضة. ولو دقق الانسان النظر بشكل أعمق سيجد أنها تنتهي إلى منظومة واحدة. ممكن فقط أنه لا يستحضر معناها أو لم يقف على كنهها بشكل جيد.
أختم بالقول أن كلمة "منظومة" لا أقصد بها منظمة ولا تنظيم. إنما أقصد بها فلسفة حياة معينة جامعة تدور حولها العديد جدا من الأجزاء والمشاريع وربما التنظيمات وربما الأحزاب وممكن دول وكيانات عالمية. (منظومة الإيمان، منظومة الإلحاد، منظومة العلم التجريبي، منظومة الحداثة، منظومة المال، منظومة البيئة،..)
وأقصد ب "السياق" هو الطريق الحالي الذي يربط بين الفعل الاجرائي الذي يقوم به الإنسان في هته اللحظة مع المنظومة بشكل عام التي يعتقد أنه منخرط فيها!