وإذا تأمّل المرء في معنى الغاسق فسيجد فيه شدّة الخفاء، والتغلّب القاهر غير المتدرج، وسرعة الدخول في الشيء، وقوة الامتلاء بشيء غليظ لا غوث منه إذا تمكّن؛ ألا تراهم يقولون غَسقت العينُ إذا امتلأت بالدمع أو بالدم، فغارت، وانطفأ نورها، وأظلمت، وأنت خائف لا تسطيع وقف نزيفها، فتدخل في شرّ العمَى المظنون وما ينتج عنه ويتداعى منه من خوف العمى التام؛ وتراهم يقولون غَسق القمرُ إذا انطفأ نوره وأعتم، وأرى أن غسق القمر لا يكون هنا من خسوف أو كسوف، وإنما بسحاب مركوم يلفّ هالة البدر التام بإحكام، ويطفئ ضوءه تماماً، ويغرق الناس في ظلام عميم تحت قصف الرعود وانصباب المطر الكثيف المتتابع بلا انقطاع مع زمهرير البرد الحارق، وقد هجم عليهم ذلك من غير توقّع ولا استعداد، حتى يتيقّن الناسُ الشرّ بانقطاع الأمل من الغوث الممكن والمدد المرجوّ حيث لا يستطيع الإنقاذ الجويّ أو البرّي أو البحريّ أن يصل إليهم قريباً.
وقد وجدنا في الغاسق إذا وقب اجتهادات عديدة تفسّر معناه بالتصوير والتمثيل غالباً لأن المعنى في الآية مركّب، ثم وجدنا اجتهادات تبدو مستغربة لكنها تدخل في معناه وتحتمله، حتى رأينا الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله يجعل أمراض السرطان الحافرة للجسد الآكلة للخلايا من جملة ما يصحّ معنى التعوّذ منه بهذه الآية.
وأحسب أن طُروق المصيبة ليلاً أو نهاراً على حين غرّة عند امتلاء الجوّ بالطائرات والمسيّرات الصارخة الزنّانة المرعبة، ومسح الأحياء والمربعات السكنية بنيران القذائف التي تُرمى على المنازل والمرافق من كل ناحية حين تفاجئ الناس بهولها المصبوب الذي يحفر في مواضعهم أينما حلّوا، ويقلب المدى من حولهم ليلاً أو نهاراً إلى إعتام واغتمام بدخان النار وغبار الأنقاض المتداعية المتهدّمة، وكأنهم يتقلّبون في "وَقْبة" محفورة تخرج منها أنواع الشرور المستنقِعة مما يدخل في تصوّر معنى هذه الآية.
وقوله سبحانه: "غاسق إذا وقب" غير أن يقول: "غاسق إذا غسق"، فإنه إذا غسق الأمرُ تدفّق وانصبّ، ثمّ حَفر بقوّة في الأشياء الغليظة الصلبة، واستنقَع في حفرتها ما يؤذي الناسَ، ويدخل بسببها الأذى إلى كل ما حولها ومن حولها، وذلك تصوير هائل لهذه النازلة.
وأرجو أن المرء الذي يُحصِّن نفسه وأهله بهذه الآية، ويعتقد النجاة باسم الله فيها ممن تُرجَى نجاتُه إذا شاء الله، ويُجاب دعاؤه، ويُصرَف عنه قضاؤه، إذ كان رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه يوصي زوجَه عائشة رضي الله عنها: "تعوّذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب"، وتخصيصُ رسول الله القمرَ بأنه الغاسق إذا وقب لا ينفي شمول الاسم لغيره، وغالباً ما كان ذلك تحذيراً منه بأنّ ثمّة شرّاً قادماً متحيّناً سيطرق في تلك الليلة أو بعدها.
فاستعيذوا برب الفلق الذي يشقّ الصبح، ويغيّر الحال إلى نقيضه قهراً وعلوّاً، ويفتح لكم طريقاً جديدة مأمونة، واستجيروا به في هذه النازلة الشديدة، فإنه الملجأ والملاذ والمَنْجَى.