قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947م بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية، ودولة عربية، لم يكن نموذجا تعسّفيا لفكرة " حلّ الدولتين "التي تمخّضت عنها العقلية الاستعمارية المتوحّشة عقبَ الحرب العالمية الثانية؛ بل سبقته تطبيقات، ثم لحقته تطبيقات استعمارية تعسّفية أيضاً في المنطقة، وفي أوروبا ذاتها، وفي مناطق أخرى من العالم.
كانت الدولة العثمانية هي النموذج الذي طبقت عليه القوى الاستعمارية المتوحشة فكرة التقسيم غداة إلغاء الخلافة في 3 مارس 1924م، وتمّ حلّ المسألة الشرقية (الدولة العثمانية) ـ أو كما كانت القوى الاستعمارية تسميها: الرجل المريض ـ بتقسيمها إلى عشرين دولة ودويلة. نعم كان الحل هو تقسيم الدولة إلى عشرين دولة ظهرت تباعاً هي: تركيا ـ سوريا ـ لبنان ـ فلسطين ـ إمارة شرق الأردن ـ العراق ـ مصر ـ السودان ـ اليمن ـ الكويت ـ البحرين ـ قطر ـ الإمارات ـ عمان ـ ألبانيا ـ بلغاريا ـ البوسنة والهرسك ـ أرمينيا ـ جورجيا ـ أذربيجان.
وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في سنة 1945م بهزيمة ساحقة لدول المحور (ألمانيا ـ اليابان ـ إيطاليا)، وفرض الحلفاء المنتصرون تقسيم ألمانيا بالقوة المسلحة إلى "دولتين": ألمانيا الغربية الاتحادية ـ وألمانيا الشرقية الديمقراطية. واستمرّت الدولتان وبينهما سور برلين شاهداً على غطرسة القوة في فصل الجسد الألماني إلى شطرين منفصلين، إلى أن أعيد توحيدهما في أكتوبر 1990م بعد سقوط سور برلين وانتهاء الحرب الباردة.
حدث حلّ الدولتين مرة أخرى في كوريا بعد حرب طاحنة استمرت من سنة 1950 إلى سنة 1953م، وكان الحل بوقف الحرب والتقسيم الفعلي ــ دون اعتراف رسمي دولي بهذا الحل إلى اليوم ـ إلى دولتين: كوريا الجنوبية، وكوريا الشمالية.
احتدم الصراع في قبرص بين شمالها وجنوبها، وبلغ ذروته في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ومرة أخرى وصلتها وصفة "حلّ الدولتين" في سنة 1974م: قبرص التركية/ الشمالية، وقبرص اليونانية/ الجنوبية، دون اعتراف دولي بهذا التقسيم وبهذا الحلّ حتى اليوم.
وبعد سلسلة من الفشل الداخلي في الاتحاد السوفييتي، وعقود من الحرب الباردة بينه وبين المعسكر الغربي، لم يكن الحلّ إلا بالتفكك في سنة 1991م إلى خمس عشرة دولة هي: ليتوانيا ـ جورجيا ـ إستونيا ـ لاتفيا ـ أوكرانيا ـ بلاروسيا ـ مولدافيا ـ قرغيزستان ـ أوزبكستان ـ طاجيكستان ـ أرمينيا ـ أذربيجان ـ تركمانستان ـ كازاخستان ـ روسيا الاتحادية بعاصمتها موسكو.
حدث حلّ الدولتين مرّة أخرى في شرق أوربا عندما تمّ تقسيم تشيكوسلوفاكيا في سنة 1993م إلى دولتين: التشيك، وسلوفاكيا، بعد اتفاق ودّي بين القوميتين السلافية والتشيكية.
وتكرّر حلّ الدولة إلى أكثر من دولة في يوغوسلافيا. بدأ الحلّ سنة 1991م واستمر إلى 2006م، وفي تلك السنة توقفت الحروب الدموية الأهلية والعرقية الطاحنة، وأسفرت عن حلّ تمثّل في ظهور سبع دويلات هي: سلوفينيا، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وصربيا، والجبل الأسود، وكوسوفو.
انتقل حلّ الدولتين في مطلع الألفية الثالثة إلى إفريقيا، حيث تمّ حلّ الصراعات في الصومال بتقسيمه إلى دولتين في سنة 1991م. ثم انتقلت عدوى "الدولتين" إلى السودان فبعد الصراع الطويل بين شماله وجنوبه تم تقسيمه (بعد تدخل أمريكي وغربي باستخدام القوة من خلال دعمها لجيش جارانج، وإجراء استفتاء شعبي في سنة 2011م) وتمخّض الحلّ عن دولتين: شمال السودان وعاصمتها الخرطوم، وجنوب السودان وعاصمتها جوبا.
لم تفقد وصفة "حلّ الدولتين" فعاليتها، وإنما أخذت أشكالاً غير رسمية متزايدة بعد موجة الربيع العربي، فالصراع في ليبيا نشأ عنه وجود حكومتين (حكومة بنغازي وحكومة طرابلس). واليمن في خضم صراعات دموية فيه حكومتان أيضاً (حكومة صنعاء/ صعدة ـ وحكومة عدن). وسوريا بعد حرب أهلية دموية فيها اليوم حكومة دمشق، واحتلال إسرائيلي، ومليشيات قسد في الشرق ـ والعراق بعد حروب متواصلة ووحشية منقطعة النظير مارستها الاحتلال الأمريكي هناك حكومة بغداد، وحكومة أربيل، ومليشيات عدة.
في الحالات السابق ذكرها جاءت وصفة حل الدولتين/الدول بعد صراعات وحروب إقليمية وأهلية طاحنة.
وبقي "حلّ الدولتين" الذي نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947م، قبل ظهور الكيان الإسرائيلي في سنة 1984م، والذي حدث هو أن القوى الاستعمارية المتوحشة مكنت الكيان من تأسيس دولته، واعترفت بها أمريكا بعد عشر دقائق من إعلانها، واعترف بها الاتحاد السوفييتي بعد اثني عشر دقيقة من إعلانها، وما يزال" المجتمع الدولي" الذي رعى وصفة "حلّ الدولتين" من 1947 إلى اليوم عاجزا ًمشلولاً أمام الإجرام بحقّ الشعب الفلسطيني ومقدسات الأمة.
لست مع حلّ الدولتين في فلسطين. إذ فلسطين عربية من البحر إلى النهر. ومن هذه الزاوية أنظر إلى طوفان الأقصى الذي انفجر في أكتوبر 2023 بعد أكثر من سبعين سنة من العذابات، ليعيد قضية فلسطين إلى مكانها الصحيح في قلب اهتمامات العالم كلّه، وعلى جدول أعمال مؤسسات الشرعية الدولية، ولم تهداً موجاته بعد، ولن تهدأ حتى تبلغ غايتها في الحرية والاستقلال التام.
أما لماذا؟ فلأن هذا هو حكم التاريخ، وقانون حركات التحرر الوطني.