للتجديد الفكري في كل أمة من الأمم علاقة مباشرة وغير مباشرة بنهوضها، ذلك أن كل أمة من الأمم المتخلفة يوجد في ثقافتها ما يكون عائقاً أمام نهوضها وتقدمها، إما بسبب خطأه أو بسبب تقادمه، ومن ثم فهي بحاجة لدراسة أفكارها لإزاحة المفاهيم والأفكار التي تعيق نهوضها، وتطوير ما يمكن تطويره منها.

إن عملية تجديد الفكر لكل أمة من الأمم أشبه بتحديث برامج الكمبيوتر التي أصابتها الفيروسات فأثقلتها وتباطأت حركتها، وربما أوقفتها عن العمل، فيكون الجهاز بحاجة لمكافح فيروسات، وبحاجة لتحديث البرامج القديمة كي يكون أسرع في تشغيل البرامج.

والتجديد الفكري لكل أمة من الأمم يهم كل فرد فيها، ويطال كل مكون من مكونات ثقافتها، ويأتي على رأس هذه المكونات الفكر الديني، الذي يعد أهم مكون للثقافة في المجتمعات، وخاصة في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث الفكر الديني هو الأساس في تكوين ثقافتها وطريقة تفكيرها.

إن تجديد الفكر الإسلامي ليس خاصاً بالمتدنيين في هذه المجتمعات دون غيرهم، بل وليس خاصاً بالمسلمين دون غيرهم، وإنما يهم ويخص كل فرد يعيش في هذه المنطقة ويتأثر بثقافتها، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ولذا وجدنا شخصيات اشتغلت على تجديد هذا الفكر رغم أنها من خارج العقل الإسلامي، بعضهم يعود لأصول مسيحية ولكنه يرى أن ثقافة مجتمعه إسلامية وبالتالي لابد من تجديدها لأجل النهوض.

إن حركة التجديد هي العملية الأجدى والأقوى في تحريك العقل الإسلامي المعاصر نحو النهوض والتنمية، أما دعوات تجاوز الفكر الإسلامي تماماً فهي عبث وخفة لا يقولها مفكر درس جيداً تجارب الأمم والشعوب في تعاملها مع ثقافتها وفكرها.

الفكر الإسلامي هو ما أنتجه العقل الإسلامي من أفكار ومعارف في إطار المبادئ والقيم الإسلامية، والتجديد لهذا الفكر يدور حول خمسة معان: أولها التأصيل: أي إعادة الفكرة إلى أصلها وجذورها، وثانيها التكميل: أي تطعيم الفكرة بشيء هي في حاجة إليه حتى تكون جديدة، وثالثها التنخيل: أي غربلة الفكرة وتصفيتها مما ليس فيها، وإزالة الشوائب حولها، ورابعها التشغيل: أي تفعيل العمل بالفكرة وتحريك الجوانب المعطلة فيها، وخامسها التبديل: أي استبدال فكرة بما هو أجدر منها في بلوغ المقصد، وأحسن منها في تحقيق المطلوب.

تبدأ خطوات التجديد الفكري بإعادة قراءة الجزئيات التي يراها الباحث غير معقولة أو غير واقعية أو تتصادم مع مصلحة المجتمع بشكل واضح، يعود إلى الأصول ليعرف مكان تلك الجزئية في الفكر الديني، هل هي في مناطق المرونة أم الصلابة؟ في مناطق الظن أم القطع؟ فإن كانت في مناطق الظن أولّها أو ردّها فكلا الأمرين مقبولان، وإن كانت في مناطق القطع الثبوتي اكتفى بتأوليها فقط، والتأويل هنا قد يأخذ مناهج متعددة في البداية. 

بعد أن يمر الباحث على أغلب الجزئيات التي حولها إشكال يبدأ في المرحلة الثانية فيبحث في الرابط بين تلك أسباب المشكلات الجزئية وبين حلولها، فإن وجد خيطاً أو خيوطاً مشتركة في الأسباب وفي الحلول فإن هذا يعني أنه أمام نظرية جديدة تتشكل معه من خلال تلك الجزئيات، قد تكون تلك النظرية مستبطنة في ذهنه، أو كانت فرضية اختبرها بذلك الكم من الجزئيات فكانت صحيحة، وتحولت من ثم لمنهج في دراسة جزئيات أخرى، قد يعيد من تعديل بعض الجزئيات لتتسق مع تلك النظرية إن كان التعديل في جزء يسير منها، وقد يحصل العكس فيعدل قليلاً في النظرية لتشمل عدداً أكبر من الجزئيات.

وبعد اختبار تلك النظرية التي تندرج تحتها كمية كبيرة من الجزئيات يتجه الباحث في المرحلة الثالثة للاشتغال على الإطار الفلسفي العام لتلك النظريات، ويشتغل عليها تعديلاً وتنظيماً كاشتغاله في النظرية مع الجزئيات، فيعدل مرة في النظرية لتتسق مع الإطار الفلسفي، ومرة في الإطار الفلسفي ليتسق مع النظرية، ومع هذا التعديل سيضطر لينظر مرة أخرى للجزئيات ويوازن بينها مع النظرية والإطار الفلسفي، فيظل يحدث التعديلات البسيطة وغير الجوهرية حتى تكون الفكرة الجزئية متسقة مع إطارها النظري، والإطار النظري متسق مع الإطار الفلسفي العام، وكلما كانت متسقة أكثر كانت الفكرة أكثر قوة وقبولاً.

وهنا نلاحظ أن عملية التجديد لا تقتصر على المستوى الأول فقط وهو الجزئيات، وإنما تشتغل أيضاً على المستوى الثاني وهو النظريات، وعلى المستوى الثالث وهو الإطار الفلسفي العام.

 فالجزئيات يكون المخاطب فيها الفرد العامي في المجتمع، وأقصد بالعامي هنا من ليس متخصصاً في مجال بحثها، أما النظريات فيكون المخاطب فيها المتخصص في ذات العلم المطلوب تجديده، حتى يقتنع بمدى قوتها والاستدلال عليها، أما الإطار الفلسفي العام فالمخاطب بها هو الآخر الذي يكون خارج ذلك الفكر ممن يؤمن بفلسفات أخرى، فتقدم له في إطارها الفلسفي لتكون واحدة من الأفكار التي يرى صاحبها أنها تصلح لأن تكون عالمية، وتستوعب من هم خارج دائرتها التي نشأت فيها.

ولو طبقنا ذلك التسلسل وتلك الخطوات على فكرنا الإسلامي فإن الجزئيات هي مسائل الفقه أو فروع العقائد، أما النظريات فهي أصول الفقه وأصول العقائد، أما الإطار الفلسفي لتلك الأصول فيأتي من الإجابة على الأسئلة الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم في ضوء تلك الأصول وتلك الجزئيات.

قد يسير الاشتغال على المستويات الثلاثة من البداية ولكن دون الإفصاح عن (النظري) و(الفلسفي) لأنهما لا يتضحان إلا بعد مدة من الزمن، فيتضح النظري أولاً ثم الفلسفي ثانياً، ومن هنا يترقى الإنسان في معارفة فيبدأ الحديث عن الجزئيات ليخاطب فئة بعينها، ثم ينتقل إلى النظريات ليخاطب فئة أخرى دائرتها أضيق من الأولى، ثم ينتقل للإطار الفلسفي فتضيق الدائرة أكثر.

هذه هي الرؤية الأكثر تماسكاً وتفسيرية في عملية تجديد الفكر الإسلامي، وأي ضعف في إحدى مستوياتها يعنى ضعفاً في المستويات الأخرى، وهذا يفسر لنا ضعف تأثير بعض الكتابات التي حاولت تقديم الإسلام فلسفياً، لأن انطلقت مباشرة للحديث عن الإطار الفلسفي للدين دون بناء سابق للنظريات الأصولية وللجزئيات، أو الاكتفاء بالنظريات التقليدية بما فيها من مشكلات، فكان الإطار الفلسفي غير متماسك وغير متسق، برغم أن لغته الفلسفية قد تكون عالية في ظاهرها لكن مضمونها ضعيف وغير قادر على تحريك النظريات وبالتالي لا تتحرك الجزئيات، ولذا بقيت تلك الكتابات والمشاريع ذلك منعزلة في دائرة النخبة فقط للجدل الثقافي، وهذا ملاحظ على من قدم فلسفات إسلامية دون استيعاب وتجديد للأصول التي بنيت على الجزئيات، أما من بدأ اشتغاله بالتراث وانتهى بدراسة الفلسفة فإنه يكون أكثر تأثيراً واتساقاً من أولئك الذين انطلقوا من الفلسفة وانتهوا بالتراث فأخذ الأخير وقتاً بسيطاً لم يكف لهضمه.

وكذلك من انطلق من تجديد النظرية مباشرة دون اشتغال على الجزئيات ودون اختبارها بعدد كبير من جزئيات الفكر الإسلامي، فكانت نظريته أقل تأثيراً وتماسكاً، لأن أي اشتغال على الأصول لن يأتي دون فروع وجزئيات، وإنما من استيعاب أكبر كم منها.