هذا الثبات الذي ترونه من أهل الثغر اليوم قد تعلّموه من سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وكنت أذكّر أصحابي يوماً بأنّ مشهد أُحُد صورة مصغّرة زمانيّاً عن مشاهد الطوفان الطويلة العظيمة.
فقد كانت معارك أحد حرباً طاحنة قضى فيها ثلّة من الأبطال حول سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وحُصر فيها رسول الله، وتحلّقت حوله ثلّة فدائيّة، وانتشرت الجثث والجرحى على سفح جبل أحد، وبادرت النساء في جبهة القتال إلى هؤلاء الجرحى يمرّضنهم، ويسقين العطاش، ويحملن الطعام والشراب على ظهورهن، وطاف الفدائيّ محمد بن مسلمة الأشهلي مع أربعة عشر من النساء فيهنّ سيدات الأمة فاطمة وعائشة وأم حرام بنت ملحان وحمنة بنت جحش... يبحثن عن ماء صالح للشرب بعد أن أجِن ماء المِهْراس في جوف الجبل، وتغيّر لونه وريحه، وعافه رسول الله الذي تجلل وجهه بالدم، حتى جلب له محمد بن مسلمة ماء عذباً من نبع وادٍ قريب، ولم ينقطع عنه الدم حتى رقأته السيدة فاطمة برماد حصير أو صوفة محترقة، وبقي أثر الضربة على عاتقه، وأثر الجراحة في شدقه شهراً يداويه ويعانيه؛ وانكسرت ثنيّته، ورسول الله يقول: اشتدّ غضبُ الله على قومٍ أدمَوا وجهَ رسولِه.
كان رسول الله يقاتل بثبات، ولمّا حمل عليه أبيّ بن خَلَف استقبله مصعب بن عمير فضرب وجهه وأبعده، وتناول رسولُ الله حربة من أحد أصحابه الفرسان، فطعنه بها في فُرجة بين سابغة البَيْضة التي تحمي الرأس، والدرعِ على ظهره وصدره، فوقع أبيّ وهو يخور كالثور؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبيّ بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذِنوني به!
ولمّا استمع رسول الله إلى تقرير أصحابه عن واقع المعركة القاسية أعلن بثبات وشموخ وتحدٍّ: (إن المشركين لم يصيبوا منا مثلها حتى نبيحهم)، وقال لعلي بن أبي طالب: (لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا)؛ ووعد أصحابه المقاتلين في غمرة هذه الإصابات البالغة بأنّ ذلك المشهد لن يتكرر، وأكّد أنه لن يتراجع حتى يدخلوا مكّة فاتحين، ويستلموا الركن اليماني بأيديهم: (لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن).
وعندما ناداهم أبو سفيان وهو في نشوة الغرور معلناً أن قريشاً تنتظر لقاءً آخر في موسم السوق في بدر أمر رسول الله أصحابه أن يردوا عليه: قولوا لهم: نعم، قد فعلنا!
فأبشِر يا سيدي العظيم رسول الله فإن جندك اليوم ما زالوا على سيرتك الأولى، وعهدك القويّ!