يرى المفكّر زيجمونت باومان[1] أن السيولة الما بعد حداثية هي خطر محدق ببنية المجتمع الغربي، وأن هيمنة الرقميّات على تفاصيل الحياة استباح الخصوصية المجتمعية، خاصة في ظل التماهي القيمي الذي توارثته المجتمعات الغربيّة انطلاقا من نبذ القيم الكنسيّة واستبدالها بقيمٍ من صنع العقل والغرائز البشريّة مما ساهم في تمييع المنظومة القيمية  وزعزعة قواعدها، الأمر الذي شكّل بنية مجتمعية هشة ومفككة .
وهذا يجعلنا نتساءل؛ هل يخضع المجتمع الإسلاميّ وتحديدا الأسرة المسلمة لذات التأثيرات التي يخضع لها المجتمع الغربي في حال اندماجه في وسط الرقميات والبرمجيات، وأين يكون دور المنظومة القيميّة في ذلك  ؟ 
في عصرنا الذي بات يرتكز أساسًا على هذا النمط من المعيشة، وبعد نظرة تحليلية للواقع وجدنا أن الأسرة المسلمة قد تشرذمت لمعسكرين؛ معكسرٌ يقوم بامتلاك واستخدام الرقميات معنويًا وماديًا باستيراد الأدوات والوسائل محمّلة بالثقافة المستوردة منها، فنجد نمط حياتهم وحتى ثقافتهم لا يختلف عن نمط معيشة الجهة المستورد منها، كأنّه استنساخ كامل شمل الأدوات والمضامين، ومعسكرٌ اعتنق القطيعة التامة لتلك الوسائل والاستغناء عنها بالبقاء في دائرة الاكتفاء بالوسائل البدائية للحياة بمختلف مجالاتها من معيشة وتواصل، مستعينين بذلك بأدلة من تراثهم وتأصيلات دينية مختلفة بدواعي حرمة التشبه بكل ما يخص أصحاب المعتقدات الأخرى!

إن الأسرة المسلمة قد تشرذمت لمعسكرين؛ معكسرٌ يقوم بامتلاك واستخدام الرقميات معنويًا وماديًا، ومعسكرٌ اعتنق القطيعة التامة لتلك الوسائل والاستغناء عنها.


هذا الأمر جعلنا نركز أكثر على تبعات مثل هاته الأفكار لدى كلا المعسكريْن، وما أوردته لنا من منتوج أو جيل أصغر بمعنى أصح، توصلنا إلى أن هذين المعسكرين أنتجا لنا عقليتين مختلفتين، عقليّة منبهرة بكل ما يتعلق بالمورد تابعة له ومقلدة، وتحمل نظرية أن مبلغ التقدم هو التشبه، وعقليّة متغوّلة عدائية لكل ما هو متعلق بالمورد وغير متوافقة فهمًا لأبسط أبجديات تلك الوسائل، عقليّتين لا تفرقان بين الوسيلة المجردة عن المورد وثقافة المورد نفسه.
إذا أردنا البحث في أسباب وجود مثل هاته المفارقات بين أبناء المجتمع الواحد سنجد أنها سنّة الأفكار التي غالبا ما تخلق لك مناصرين وأعداء، فكيف إذ ما تعلق الأمر بمنظومة رقميّة متكاملة، إضافة لافرازات الحداثة من أفكار ودراسات وفلسفات، وكيف إذا كان صاحب هاته المنظومة هو الأرجح في كفة القوى؟! إذن لابد وأن يتسقبل افرازاتها الطرف الأضعف ..!
مقامنا هنا ليس مقام السؤال عن سبب وجود هذين المعسكرين، إنما نريد وضع معالم وملامح عن أنسب حل قد تلجأ له الأسرة المسلمة بعيدا عن التماهي والاضمحلال أو التصلب والقطيعة، حلٌّ يساعد في بروز جيل متصالحٍ مع ما يستورده من وسائل، فاهمٍ لماهية ما يتلقاه من أفكار .
في إحصائيات أجراها موقع (Internet World Stats) المتخصّص في إحصائيات مستخدمي الإنترنت حول العالم، تحديثا جديدا للبيانات التي ينشرها دوريًّا، عن أعداد مستخدمي الإنترنت في البلدان العربية، بحلول نهاية شهر آذار 2017؛ وجدنا أن التزايد بات مهولا في الغوص في هذا العالم الرقمي والبرمجي ..![2]

الدول العربية و الترتيب الدولي : 

الترتيب مستخدمي الانترنت حسب كل دولة
01 مصر           34.800.000
02  السعودية      20.813.695
03 المغرب        20.207.154
04 الجزائر        15.105.000
05  العراق        14.000.000
06 السودان       10.886.813
07 دولة الامارت  8.515.420
08 تونس           5.800.000
09 المملكة الأردنية 5.700.000
10 سوريا          5.502.250
11 لبنان            4.454.007
12 سلطنة عمان   3.310.260
13  الكويت        3.202.110
14 فلسطين        3.007.869
15 ليبيا             2.800.000
16 دولة قطر       2.200.000
17 مملكة البحرين 1.278.752
18 اليمن              677.228
19 موريتانيا          714.132
20 الصومال          660.000
21 جيبوتي            150.000
22  جزر القمر        60.000

وفي ظل هذا الإنتشار الواسع والذي بات أمرا واقعا لا مفر منه وجدنا أن أفضل حل هو المواجهة مع التمحيص، كيف يكون ذلك ؟! ..
 يكون ذلك بقبول استيراد كل شيء من المورد (الوسائل محمولة بثقافتها)، ثم نخضعها لمنظومتنا القيمية الخاصة، ونقصد هنا بالمنظومة القيمية هي مجموع ما اتفق عليه المجتمع من أفكار وسلوكيات وقيم ضابطة له والمستمدة من ضوء الدين الإسلامي، ذلك يضفي نوعًا من الأخلاقيّة على الوسائل لتبقيها كأداة خاضعة لمتطلبات المجتمع، لا محركا أساسيا له، فتوقعه في ذات الدوامة التي وقع فيها الغرب .

إذا وضعنا إسقاطا واقعيّا كمثال وحاولنا دراسة الفروقات بين المسلمين كبيئة مستوردة وجزء من العالم الثالث المتخلف وبين الغرب المتطور كجهة موردة سنجد هناك فروقات تنقسم لشقين: الشق العلمي والشق الاجتماعي.

حيث يتفوق الغرب على مسلمي العالم الثالث في الشق العلمي في حين لازال يتخبط في منظومة اجتماعية سائلة كما سبق لنا الإشارة فيما عرضه باومان إذ ما قورنت بمنظومة المسلمين الاجتماعية التي لا زالت رغم التخلف المادي والعلمي منظومة مستقرة ومفهومة الأبعاد، دقيقة القوانين المهيكلة والمسيرة لها، في حين أن المنظومة الغربية أقرب للفوضى منها للتناسق والوضوح فنجد أن الأدوات باتت تتغول على كينونة الفرد الغربي وتستولي على وجوده وتذيب كل العلاقات والروابط الاجتماعية، وتخضع كل القيم لمفهوم واحد ألا وهو المادية المذابة فيما يسمى بالرأسمالية وذلك أحد إفرازات الحداثة وتأثيراتها على الحياة الغربية .
ومن كل ذلك نجد أنه إذا امتلكت الأسرة المسلمة تلك الوسائل وأخضعتها لمنظومتها القيمية ستحوز تقدما بارزا، بل قد نشكل بذلك أنموذجا فعالا قابلا للتصدير والمشاركة، لنجاحه في إخضاع تلك الأدوات والتحكم فيها وأخلقتها وإيراد جيلًا فاهمًا لطبيعة الأدوات محافظًا على  قيمه.