في خضم تنوع الحياة المعاصرة وتعدد أزماتها الفكرية، الاجتماعية ،الاقتصادية والسياسية؛ وفي ظل غياب الدور الريادي الذي كان يوما للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها،وأمام عجز سائر الحلول الآنية والجزئية لمواجهة أشكال المغريات ومكافحة صنوف الأزمات، فيستلزم الأمر ضرورة العودة والالتفات إلى المنهج الإسلامي المتكامل والقادر على مواجهة كل المغريات ومعالجة سائر الأزمات بأشكالها المختلفة، و العنصر البشري هو الثروة الحقيقية لأي أمة وهو أساس البناء الحضاري وتحقيق النهضة، لأجل ذلك يجب الاهتمام بالنشء وبتربيته في كل نواحي الحياة ومنها المجال الاقتصادي والمالي، بحيث نعمل على غرس وتعزيز الثقافية المالية التي جاءت تعاليمها ومبادئها في شريعتنا الإسلامية حتى يلم بأصولها فتصقل شخصيته بامتلاكه للمهارات المالية وقدرات الاتصال الصحيحة القائمة على المنهج الإسلامي. 

المحور الأول: شمولية الاقتصاد الإسلامي

الاقتصاد في الإسلام لا ينفصل ولا يتجزأ عن كلية وشمول الإسلام لضروب الحياة المختلفة وجوانبها العديدة بشريعته وعقيدته على السواء،ومن الخطأ الفادح محاولة فصل الجزء ( الاقتصاد) عن الكل ( الشريعة و العقيدة) وما يعنيه هذا الفصل من قصور وتشوه وعدم تحقق كافة النتائج المرجوة ؛ وعدم الفصل هذا يعني سيادة مثل وقيم على العقل والقلب،ومن ثم السلوك الاقتصادي الرشيد فيما يتعلق بالثروة وتداولها وتوزيعها،وهياكل الإنتاج والاستهلاك والتبادل والموارد المالية،وغير ذلك مما يلزم للحفظ والمحافظة على مقاصد الشريعة الكلية العليا من حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض والنسل في جوانبها المادية والمعنوية معا. وقد عرفت الممارسات الاقتصادية الإسلامية على المستووين الجزئي والكلي منذ العام الهجري الأول فقد أقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سوقا للمسلمين في المدينة بعد هجرته إليها مباشرة ووضع له كل الضوابط ما يكفل القضاء على كافة الأشكال والممارسات الاحتكارية والقضاء على الغش والغبن في المعاملات كما يكفل الفرص أمام الجميع مشترين أو بائعين.

ليس في الاقتصاد الإسلامي كما في الاقتصاد الحر أو الاقتصاد الجماعي سوى مذهب اقتصادي واحد، يتمثل بالنسبة للاقتصاد الإسلامي، في تلك الأصول والمبادئ الإسلامية حسبما وردت في نصوص القرآن والسنة. وأنه في حدود المبادئ والأصول الاقتصادية إسلامية كانت أو فردية أو جماعية، تختلف التطبيقات أو النظم الاقتصادية باختلاف ظروف الزمان والمكان.

من المعلوم أن الإسلام نظام شامل كامل فيه الحلول المناسبة لكل ما يحدث للناس من القضايا والحوادث وقد جاء الإسلام لينظم للبشرية كل أمور حياتها ويضبطها وفق المنهج الإلهي الحكيم ،قال تعالى:﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ (الأنعام،الآية 38)،وقال عز وجل ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام ،الآيتين 162،163). وبالنظر للاقتصاد الإسلامي على أنه جزء من النظام الإسلامي العام ينتج عنه أمور في غاية الأهمية  من بين هذه الأمور نذكر:

1- إن للنشاط الاقتصادي في الإسلام طابعا تعبديا:

و يتوضح هذا الأمر من خلال مجموعة من النصوص الشرعية التي تبين أن النية يمكن أن تحول العادة إلى عبادة، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنية "وفي رواية "بالنيات"، ولهذا كان من القواعد الفقهية المعروفة ( الأمور بمقاصدها) والتي يؤخذ منها أن سائر المباحات يمكن أن تصبح عبادات إذا صحبتها نية التقرب إلى الله تعالى، وبالتالي يصبح النشاط الاقتصادي في الإسلام عبارة عن عبادة يثاب عليها المسلم إذا ابتغى بنشاطه  وجه الله تعالى وانصرفت نيته إلى مرضاته.

2-  نظرة الإسلام إلى المال:

تتلخص نظرة الإسلام إلى المال في أنه مال الله تعالى وأن البشر مستخلفون فيه،والواجب عليهم أن يتصرفوا فيه وفق ما شرعه مالكه الحقيقي،ومن هنا تبرز أهمية التمسك بقضايا الحلال والحرام في مجال الاقتصاد، كما يجب أن ينظر إلى المال على أنه وسيلة لا غاية ،فليس جمع المال هدفا في حد ذاته ،وإنما المقصود من النشاط الاقتصادي وتحقيق الربح المادي أن يكون ذلك عونا للعبد على طاعة الله، وكما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم  " نعم المال الصالح للعبد الصالح "؛ ومتى فقد المال صفة الصلاح أصبح مفسدة في حد ذاته،فلا يجوز حينئذ أن يحرص المرء عليه كالمال المكتسب من الخمر والربا...

المحور الثاني: مفهوم الثقافة المالية ونظرة الإسلام إليها                                                                                                                                           

 الثقافة لغة:  جذرها ثَقِفَ، ثقفا: صار حاذقا فطنا. فهو ثَقِفٌ. و- الخل: اشتدت حموضته فصار حِرِّيقاً لذّاعاً. فهو ثقيف.و- العلم والصناعة: حَذَقهما.و- الرجل في الحرب: أدركه. و الشيء: ظفِر به. وفي التنزيل العزيز:" واقتلوهم حيث ثقِفْتٌموهم".
ثاقفه، مثاقفة. وثِقافا: خاصمه. و- جالده بالسلاح.و- لاعبه إظهارا للمهارة والحذق.
ثقْف الشيء: أقام المعوج منه وسوَّاه. و- الإنسان:أدبه وهذّبه وعلمه.
وتعتبر كلمة الثقافة لفظة محدثة، فهي كلمة استعملها المحدثون في العصر الحديث، وقد عرفت انتشارا واستعمالا كبيرا في لغة الحياة العامة، وذكر في المعجم الوسيط أنها تعني العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها.
اصطلاحا: هي كل ما فيه استثارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد أو في المجتمع، وهي تشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه، ولها طرق ونماذج علمية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية. 
 

إن المال له علاقة بكل جوانب حياة الإنسان، حتى تلك المرتبطة بالمفاهيم الروحية والإيمانية السامية، وخاصة أن الشريعة الإسلامية أولته أهمية وعناية خاصتين تتجلى بوضوح في الكثير من الآيات القرآنية الكريمية والأحاديث النبوية الشريفة،                                                                                            

مفهوم الثقافة المالية:

ويمكن تعريف الثقافة المالية على أنها:معرفة العلوم والتطبيقات المالية والاقتصادية المتعلقة بشكل أساسي في حياة الفرد مثل جانب الاستهلاك ( الصرف والإنفاق) وجانب الادخار والاستثمار وغيرها، والتي تهدف إلى رفع مستوى إدارة الثروة المالية من أجل حماية الثروة وزيادة نموها والعمل على تحقيق نهضة الاقتصاد الوطني بشكل عام.

إن الفرد بحاجة إلى تنمية ثقافته المالية من أجل اتخاذ القرارات الصحيحة للحفاظ على مدخراته، وأيضا من أجل العمل على تنمية استثماراته وتنويعها وعدم الاعتماد على مصادر أحادية للدخل، والإسلام يحث الفرد المسلم على الإلمام بمبادئ وأسس المعاملات الإسلامية من جهة وأيضا ضرورة الاقتصاد في الإنفاق وحسن استغلال المال في الأوجه المشروعة وعدم اكتنازه، فالإسلام إذ يحث على الإنفاق والاستهلاك المشروعين؛ فإنه يقرر بلا لبس أن هناك هدفا غائياً للفرد المسلم هو عبادة الله وطلب رضاه.

المحور الثالث: بناء الثقافة المالية من منظور إسلامي

لا يزال مصطلح الثقافة المالية يعرف القليل من الانتشار في الأوساط العربية، وذلك بسبب عدم الاهتمام به من النشأة، فالنقص في إدارة الموارد المالية وبناء الثقافة المالية الشخصية القائمة على تعاليم الشريعة الإسلامية تكاد تكون معدومة، فبناء الثقافة المالية هو مسؤولية الجميع فردية كانت واجتماعية، بداية من الأسرة من خلال تعويد الأطفال على البساطة والاستمتاع بما لديهم والتفكير باقتناء الضروريات مرورا بالمدارس التي يجب أن تنمي هذه الثقافة من خلال برامج دراسية تعمل تزويد الطالب بأسس المعاملات المالية في الإسلام، وأهمية الاستثمار والتفكير بالاستقلال المالي، وصولا إلى الحكومات التي يجب عليها هي أن تشجع الإنتاج وتدعمه ونشر الوعي بين الأفراد من أجل ترشيد الاستهلاك، خاصة في ظل النزعة الاستهلاكية العالية للمجتمع الغربي والتي تم تفسيرها من قبل العديد من رواد الفكر الإسلامي على أنها شكل جديد من أشكال الاستعمار ( الغزو الثقافي الداخلي) وامتداد آخر لتغريب المجتمع .
فالاقتصاد الإسلامي يهدف إلى سد حاجات الفرد والمجتمع الدنيوية، طبقا لشرع الله تعالى الذي استخلف الإنسان في التصرف في المال والانتفاع به، فالمسلم يدرك أن المال ملك الله عز وجل، فيكون إرضاء مالك المال سبحانه وتعالى هدفا يسعى إليه المسلم في نشاطه الاقتصادي.

إن العمل على تعزيز مبادئ وأسس الثقافة المالية القائمة على تعاليم الشريعة الإسلامية، يعتبر أحد الركائز لقيام النهضة الإسلامية، خاصة وأن الإسلام لم يدع صغيرة و لا كبيرة إلا واهتم بها، ففي ظل التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم وانتشار مختلف الأزمات يجب توعية الأفراد وتزويدهم بهذا السلاح المهم لمواجهة تحديات الحياة المستقبلية والرفع من دخولهم وتنويعها وحسن إدارتهم لمواردهم المالية، كما يجب إعداد الأجيال و تكوينهم في جانب التربية الاقتصادية والثقافة المالية من أجل  إحياء النهضة الإسلامية، والتي لم تندثر إلا بسبب  الابتعاد عن تعاليم ديننا الحنيف.