يأتي رمضان كل عام ويمر علينا جميعا، يتأثر بعضنا به، وربما تطول فترات التأثر، ربما تزداد الحالة الإيمانية، وربما تستمر قليلا بعد رمضان، فينا أيضا من يزول عنه التأثر خلال رمضان، نجده ممتثلا للأوامر والنواهي الرمضانية خلال يومين أو ثلاثة ثم لا يستمر، الجميع قد يعاني...رغم أنه شهر واحد، فأين الخلل؟
بداية، نعتبر رمضان حدثا، والأحداث تصنع الرجال، ويصنع الرجال المعجزات، لن نفرق هنا بين الرجال أو النساء، لكن سنفرق بين من صنعه حدث رمضان، ومن لم يصنعه!
بغية إدراك معنى "صناعة الحدث" أو "التربية بالحدث"، لنعش مع هذا المثال:
كيف صنعت أحداث بدر رجالا غير الرجال؟
كانت غزوة بدر أولى المعارك الكبرى في الإسلام، وفيها من الدروس ما يعجز القلم عن سردها هنا، لكن سنوجز خطوطا عريضة تساعدنا في فهم التربية بالحدث.
خاض الصحابةُ الغزوةَ وكانوا فيها وقبلها عبارة عن رجال لهم قوالبهم وميزانهم، غير أن القالب اختلف والميزان قد ازدادت كفته. لذا، بعد بدر أنزل الله آيات تذكرهم بأحوالهم، عن اختلافهم وخوفهم قال تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)، عن ضعفهم (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، عن تأمينهم ساعة خوفهم (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)، عن إمدادهم بالملائكة لتثبتهم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ)، عن حقيقة القتال وأنه هو سبحانه من نصرهم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ)، عرض الله على المؤمنين كلّ ذلك يوم بدر، وذكرهم بها بعد النصر، لغاية واحدة "التربية"، لقد أراد الله للفئة الأولى من المجاهدين أن يُصنَعوا صناعة جديدة انطلاقا من هذا الحدث، فسخر سبحانه مجموعة من العوامل المساعدة للنصر، وعند التقييم ذكرهم بالعوامل، حتى لا يدعي أي أحد أنه من صنع، قاتَل، وانتصر، لقد ذكرهم بخوفهم، بضعفهم وبقوته، حتى ترتبط أسباب النصر به وحده، أما هم مجرد أدوات للقدرة، إن أحسنوا العلاقة به تعالى نصرهم.
لقد تعلم الأصحاب درسًا عظيمًا يتمثل في التواضع، التعلق بصاحب القدرة، ومقتضيات النصرة، تمر الأيام وتأتي أحداث أخرى، لتختبرهم وجودة الصنعة.
خرج المسلمون في سرية مؤتة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وعددهم ثلاثة آلاف، أما الأعداء مائتي ألف رجل، أي أنهم ستة وستين ضعفا للمسلمين!
استشهد قادة الجيش المسلم وحملة الراية الثلاثة، سيدنا زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وتعقد الموقف أكثر، حيث أخذ الأعداء يمثلون بجثث أحد القادة الثلاثة نكاية في المسلمين، وإضعافًا لعزيمتهم، بدأ جيش المسلمين يهتز، حينئذ خرج من بين الصفوف رجلان من بدر، من صنعتهم أحداث بدر، وربتهم آياتها.
الأول سيدنا أبو اليسر لا يعرفه كثير من المسلمين اليوم، كان من أصحاب بدر، وله فيها حال عجيب، لقد كان قصير القامة ولكن عزمه عزم الأسود، فأراد أن يأسر أحد رؤوس الكفر في يوم بدر، وضع عينه على العباس وهو رجل شديد، رغم ذلك، مكّنه الله، ولما ذهب به لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (أعانك عليه ملك كريم).
هذا أبو اليسر الذي تربى في مدرسة بدر، مدرسة المعية الربانية، لا تضره الأحداث، بل هو من يصنعها إن شاء، قرر أبو اليسر قراره في مؤتة، وكأنه يستدعي ذاك الملك الذي أعانه يوم بدر، ورمى بنفسه تحت ظلال السيوف التي باتت تمثل بجثث القادة، وهمه أخذ راية المسلمين.. فعلها ورفعها ثانية! لكن لم يستأثر بها لنفسه، فلقد تربى على أن يقف على حقيقة ذاته كما فعل الله به يوم بدر، ذهب بالراية إلى بدري آخر سيدنا (ثابت بن أقرم) قائلًا: "يا ثابت هذه راية المسلمين". أخذها عنه، ركزها على الأرض وصرخ في المسلمين "إليّ أيها الناس" فاجتمعوا إليه حتى كثروا، ومن بعيد رأى رجلا من المسلمين يرعد من الخوف فذهب إليه وقال: "يا أبا هريرة لعلك ترى جموعاً كثيرة؟ " ، قال: "نعم"، قال:" يا أبا هريرة إنك لم تشهد معنا بدرا، إننا لم ننصر بالكثرة"، إنّه لثباتٌ عظيم، في حين يرتعد كبار الصحابة خوفا، هذا البدري يثبتهم!
ذهب ثابت بن أقرم بالراية إلى خالد بن الوليد الذي لم يمر على إسلامه سوى أربعة أشهر، صرخ فيه: "خذها يا خالد"، وهو يرد: "بل أنت أحق بها مني، أنت ممن شهدوا بدرا"، لكن أصر عليه ثابت ومعه المسلمين حتى أخذها وحقق معادلة النصر.
لكن من صنع هذا النصر من بدايته؟ أوليس هذين الرجلين البدريين أبو اليسر وثابت بن أقرم! تربا في حدث بدر، فصنع منهم رجالا يحققون المعادلة الصعبة في كل حدث.
هكذا تصنع الأحداث رجالا، وهكذا يستفيد الرجال من الأحداث، وهكذا رمضان يربينا ويصنع منا أبطالا جددا، يصنع من كل واحد منّا إنسانا آخر، يكمن السر في من يعرض نفسه على رمضان ، فمن يفعل مثلما فعل هذان الرجلان ويستفيد من الدرس كما استفادا؟ لا بد أن تعرض نفسك على الحدث، تتعرض له، حتى تصب منه ويصب منك.
كذلك رمضان، حدث له تربيته وصناعته، لكن تظل الصناعة حبيسة، وتظل التربية معطلة ما لم نعرض أنفسنا عليهما!