يلج كلُّ واحدٍ منّا القرآن الكريم بروحهِ ليرتوي من أنهارهِ العذبة، ولكن أيٌّ مِنّا وَلَجَ باب التدبُّر والتفكُّر وكانَ في وقارهِ - وهو يستقبل الآيات الآية تلو الأخرى- كوقارِ الجبالِ؟! كما قال تعالى: { لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون .}[1]

القرآن أُسّ البناء الحضاري، فإن لم يكن أُسّ لم يكن بناء؛ قد مَلَكَ المُسلمون الأوائل الآفاق ولم يكن لديهم ميراثٌ حضاريّ، ولكن كان في جُعبتهم القرآن، القرآن وحده؛ وبهذا القرآن أنشئوا واحدة من أعظم الحضارات على مَرّ التاريخ؛ أمّا نحن قد تكون كفتنا أرجح،  ففي جُعبتنا القرآن والميراث الحضاريّ الذي تركوه لنا!

لكنّا اليوم، نشهد هجرًا للقرآن وإعراضًا عن التدبُّر في آياته والاستهداء بها، وهو سببٌ من الأسباب التي أردت الأمّة طريحةَ الذلَة والفُرقَة، واستفحلت فيها الأزمات والأمراض.

إنّ في التدبرِ شفاءٌ للأمّة، وفيه إعدادٌ للمسلم وتنميةٌ لوعيه وشحذٌ لهمّته، حتى يؤدي دوره في استخلافِ الأرض وإعمارها، في التدبر تعقُلٌ بالدور الحضاري المنوط بنا!

من هنا أردنا أن ينقدحَ وعيُ المُسلم بعد أن تُشّع فيه أنوارُ القرآنِ؛ ورأينا أن نُقدِّمَ أربعة مناهج في التدبُّرِ والتفكُّرِ؛ نجمعها لكم في هذا التقرير، ترويحًا للقلوبِ المؤمنة، وتنقيحًا للعقولِ الطامحة لنهضة الأمّة، وتسريحًا للهمِّ الإنساني والغمِّ الذي حلّ بنّا.

 

«فُيوض المعاني».. تَذَكرٌ وعِظَّة وعَمَل

إنّ كشف المعاني يأتي بغرض فهمها والعمل بها، أوردَ الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابهِ «قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ»[2] سبعةً وعشرون قاعدة يستطيع المُسلِم من خلالها تدبُّر القرآن بطريقة مُثلى، نورد منها:

مراعاة ارتباط الجملة القرآنية بموضوع السورة وربط مقدمات الآيات بخواتيمها؛ والارتباط الموضوعي لكلّ آيةٍ بِما تفرَّقَ مِن القرآن؛ أيْ على المُتدبِّر أن يكون حاضر الذهن من خلال فهم وربط مقدمة الآية التي يقرأها بخاتمتها، وكذلك ربطها بجميع الآيات الواقعة معها في نفس السورة؛ كما عليه أن يربط تلك الآية بأيّة تتشابه معها بأيّ وجه من الوجوه في جميع القرآن.

وأن يقوم المُتدبِّر بتتبُّع مراحل التنزيل وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ من آيات الله؛ وهنا يجب عليه أثناء تدبُّره لآيات تتحدث عن موضوعٍ واحد، بأن يكون على عِلم بأسبقية بعض الآيات على غيرها وأيًّا منها لاحقة؛ وهو المعروف "بالتدرُّج في التشريع" وأن يكون على عِلم بالموقف أو الحدث الذي نزلت فيه الآية؛ وأن يعي التكرير وأغراضه؛ حيث قد يتوهّم قارئ القرآن أنَّ هناك آيات مُكرّرة؛ ولكن المُتدبِّر فيها سيكتشف الفروق الجوهرية في المعنى المُراد، وذلك وفق السياق التي جاءت فيه تلك الآيات المُتوهم تكرارها حرفيًّا، أو التي تكون مختلفة فيما بينها ولو بعض الشيء؛ حيث قد يكون هناك تشابه بين آيتين ولكنهما غير متماثلتين، ومن هنا يكون على المُتدبِّر البحث في الإختلاف من حيث "الدلالة" حتّى تتكامل الآيتين من حيث المعنى الكُلّي؛ وأن يعرض الآيات التي يتوهم فيها التناقض على الآيات المُحكمات وأن يجمع بينها فبذلك يزول ما تشابه عليه.

كما يجب على المتدبِّر أن يتتبَّع التفسيرات المأثورة عن المُفسرين وأن يرجع كذلك لمعاجم اللغة العربية للبحث عن معاني الكلمات ودلالة الألفاظ وينتقي منها ما يناسب النص والسياق التي جاءت فيه، وأن يكون منتبهًا إلى أنَّ الترادف بين الكلمات ليس معناه التماثل التام في المعنى؛ وأن يمتثل لقواعد اللغة العربية أثناء التدبُّر؛ كما عليه النظر في الأسلوب البياني للنص والبحث عن الوجوه البلاغية والغرض الفكري من وجود تلك الصور البلاغية؛ ويجب أثناء التدبُّر أن ينظر في توجيه الخطاب ومن المخاطب؟ وهل الخطاب عام أم خاص؟

كذلك يجب على المتدبِّر التوقُّف عند الأسباب التي من أجلها يتم النهي أو النفي أو الأمر وينظر في أوجه الفعل والترك؛ كما عليه أن يُطالع البحوث العلمية الإنسانية المتعلقة بالموضوعات التي يعالجها النص القرآني ويكون على عِلم بما جاء فيها حقًا مأكدًا؛ وما كان دون ذلك وعرضه للصواب والخطأ.

 

التدبرُ منهاجًا لتدبير شؤون وشُجون الأمّة..

وضع الدكتور طه جابر العلواني في كتابه «معالم منهجية في التدبُّر والتدبير»[3] عِدَّة معالم منهجية لتوثيق علاقة المسلمين بالقرآن؛ ومن تلك المعالم:

أنَّ القرآن وإن جاءَ يتحدَّى الإنس والجن؛ فإنهُ وبالرغم من ذلك جاء مُيسّرًا لمن يذكّر ويتدبَّر آياته من أولي الألباب؛ ودعوة القرآن صريحة بوجوب التدبُّر والتفكرَّ والنظر في آياته، لأنَّ ذلك مفتاح قوة الوعي الإنساني، يشحذ القوى ويجعلها قادرة على التفتُّح بالقرآن على الكون وما فيه؛ وفي ثنايا التدبُّر يأتي الخشوع لله والخضوع له، والذي يؤدّي لمخالفة أهل الكتاب في أسوأ أخلاقهم وسلوكيّاتهم ومصادر انحرافاتهم وهي " قسوة القلب".

بالتدبُّر يكون استشفاء الأمّة من أمراض الفُرقة والإنحراف والفساد السائدة؛ كما أنَّ التدبُّر يُضاعف طاقات الإنسان العقلية والذهنية، ويُشفي من أمراض عضوية كثيرة دلّت عليها الأطروحات العلمية التي تُنشر في زماننا هذا؛ كما عدَّدَ القرآن مناهج القراءة فيجب أن يستحضرها القارئ حتّى ينهل منه ما يشفي به صدره؛ بأن يقرأه ويُرتّله ويستمع له ويتفكَّر ويتدبَّر وينظر.

كما يجب على القارئ أن يستشعر معيّة الله، ويستحضر أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى-، وأن يقوم بالارتقاء والعروج النفسيّ إلى عالَم التلقّي النبوي واستحضار احساس وشعور النبي - عليه الصلاة والسلام- أثناء تلقيه الوحي وانفصاله عن كل  ما حوله.

يُضيف العلواني أنَّ الزمكان - الزمان والمكان- له من الأهمية البالغة في توثيق العلاقة بين القارئ والقرآن؛ حيث لكُلِّ منهما أثرٌ في عملية القراءة ونوعها وكيفيتها حتّى يتم الحصول على النتائج المتوخاه منها.

كما على القارئ أن يعلم بأنَّ الحضارة التي أقامها القرآن هي "حضارة الكلِمة" والتي لا يمكن توثينها وإن وثَّنها البعض، وهذا في مقابل "حضارة الصورة والتمثال والصنم"؛ ولسان القرآن يمتاز عن غيره بما في ذلك اللسان العربي؛ إذْ من الصعب إخضاعه لأحكام الألسنيَّات وخاصّةً المعاصرة التي تنطلق من عمليات دراسة النصوص وتفكيكها وإعادتها إلى كلمات مفكَّكة ثم تحليلها.

ومن العقبات التي تحول بين القارئ والتدبُّر، الذنوب، إتخاذ أحكام مسبقة من خارج القرآن قبل القراءة، إشكالية الناسخ والمنسوخ؛ والإختلاف بين القُرَّاء حيث يلتمس كلّ منهم آيات من القرآن ليُجادلوا بها؛ وكذلك غموض الغاية التي وَلَجَ بها القارئ إلى القرآن، فهل هو قاصد هداية؟! أو طالب تعبُّد وثواب؟! أو طالب معرفة حُكم؟ إلى غير ذلك من الغايات.. فلابُدَّ من تحديد الغاية من قراءة القرآن.

كما أورد العلواني عددًا من مداخل التدبُّر التي يجب على المسلم أن يعيها، كمداخل التدبُّر عند السلف الصالح والتي كانت عند الجيل الأول "جيل التلقّي"، والجيل الثاني "جيل الرواية والنقل"، والجيل الثالث "جيل الفقه"؛ وكذلك مناهج التدبُّر ومداخله المعاصرة كمدخل التعبُّد، والقيم العُليا التي منها قيمة التوحيد، والتزكية، بالإضافة لقيمة العمران التي جاء بها القرآن وعززها حتّى صارت تُمثِّل محورًا من أهم محاوره وقيمة من قيمه العُليا الحاكمة؛ وكذلك مدخل الوحدة البنائيّة للقرآن ومدخل عمود السورة، بأن يدخل القارئ إلى رحاب القرآن وهو مؤمن أنَّهُ داخل إلى  كتاب هو بمثابة الجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة، وليس إلى كتاب مجزّأ تمثِّل كل أيةٍ أو جمله منه وحدة مستقلة؛ وغيرها من المداخل التى أوردها العلواني في ذلك الجانب والتي يجب على المسلم أن يُدركها.

يأتي العلواني على فكرةِ علاج الأزمات عَبْرَ الاعتماد على القرآن الكريم باعتباره "كتاب كونيّ" مُعادل موضوعيٌّ للكون وحركته، ومستوعب لهما بكلّياته ومكنونه الذي يتكشَّف عَبْرَ الزمان؛ حيثُ يُعنى القرآن بمعالجة الأزمات العالمية - لا أزمات الأمّة الإسلاميّة وحدها-  والتي صارت مشكلات كونية؛ تحتاج إلى كتاب كونيّ قادر على معالجتها بأبعادها الكونية والتصدي لها ومساعدة إنسان اليوم على تجاوزها والهيمنة على آثارها؛ ولا يوجد كتاب كونيّ اليوم يقوم بتلك المهمة سوى القرآن!

من تلك الأزمات التي يُعالجها القرآن -على سبيل المثال لا الحصر- أزمة تفكيك الأسرة، وتلوّث البيئة، الحروب والصراعات، الصراع العربي الإسرائيلي، الإنحراف في تسخير العِلم والمعرفة، وكذلك أزمة المنهج العِلم التجريبي، المرض، الجهل، الفقر، وارتفاع مُعدّلات الجريمة، والأزمة المالية المعاصرة.

 

«مجتمعٌ قرآنيٌ متقدّم».. مفاهيم، حقائق، تطبيقات وحلولٌ جديدة

يُؤكد الدكتور ابراهيم الديب أنّ مهمتنا تتمثّل في إعادة صياغة علاقة المسلمين مع القرآن الكريم، بما يُحقق الفرد والمجتمع القرآني القادر على التقدُم، ويرى أنّ إشكاليّة العقل المسلم المُعاصر في التواصل الشكلي مع القرآن، وسطحيّة وتقَادُم الفَهم ما أدى إلى ضُعف الإنجاز الحضاري.

التدبُّر عند الدكتور الديب منهجٌ عملي يقوم على أسُسٍ ومهاراتٍ سهلة الاكتساب وينبغي أن يُوظّفها المُتدبِّر؛ بأن يكون في حالة تركيز، وأن يكون مُطَلعًا على التفاسير المأثورة والمُعاصرة، وأن يستخدم أدوات التدبُّر، دُون أن يُغفل تشغيل العقل وفهم الواقع؛ فتكون نتيجة ذلك الحصول على مفاهيم جديدة، حقائق جديدة، تطبيقات جديدة وحلول جديدة.

من أدوات التدبُّر التي ساقها الديب التفاعل اللحظي مع الآيات، إذ تُوجد رسائل وإشارات ربّانية تتطلب استجابةً وتفاعلًا، ويكون انتباه العبد بالإجابة على الله فيُمنَح فهم المعنى. أيضًا، مُعايشة الجو النفسي للآيات من خلال القدرة على التخيُّل والتصوّر بمعرفة تسلسل الأحداث التي نزلت فيها الآيات، أسباب النزول، التوقيت الذي نزلت فيه، ومعرفة الأشخاص المعنيين بتلك الآيات ومشاعرهم منها، ومعرفة طبوغرافيا المكان الذي نزلت فيه.

تكرار الآيات وعرض النفس عليها مرّة بعد مرّةٍ، والهدف من ذلك إعادة النظر فيها من جميع الجهات؛ والبحث عن مفاهيم وحقائق جديدة، وتقمّص أدوار القصّة ومُعايشة مقاماتها الذهنية والنفسية؛ وكذلك تذكير وتوعية النفس بالحقائق الهامة؛ فبالتدبُّر يطرح الإنسان الكثير من الأسئلة، وبالتدبر أيضًا يتم عقد المقارنات لبيان وإبراز المعاني والحقائق والمواقف.

ومن أدوات التّدبر، البحث في ماهيّة الأشياء الواردة في القرآن؛ وذلك من خلال البحث عنها في اللغة، والإطلاع على ما توصّل إليه البحث العلمي من حقائق عنها؛ وكذلك التماس معرفة غريب القرآن من خلال معرفة المعنى المجرَّد للكلمة في معاجم اللغة العربية والتفاسير المُعتمدة؛ واختيار المعنى الدال عليها وفق السياق العام الذي جاءت فيه.

إضافة إلى التدبُّر بالفهم الجزئي ثمَّ الكلّي للآيات؛ بتجميع السياقات الجزئية في سياقات كلية، وتجميع تلك السياقات الكلية في سياقات كبرى.

أخيرًا، التدبُّر برصد وفهم سُنن وقوانين الله في الكون والتفكير في كيفية التعاطي معها؛ فسُنن الله في الكون لها حكمة وقدسية؛ كما أنَّها مُطلقة لا يَحِدُّها شيء؛ ونافذه بقدره -سبحانه وتعالى- فهي لا تحيد ولا تميل؛ ونجدها مُطردة على مَرِّ التاريخ البشري.

 

الرؤيّة القرآنيّة للعَالم.. خرائط المعنى ومساحات الدلالة

تُعد دراسة الياباني توشيهيكو إيزوتسو في كتابه «الله والإنسان في القرآن»[4] ضمن الجهد الإستشراقي العام لفهم وتحليل مظاهر الحضارة العربية والإسلامية؛ وترجع أهمية هذه الدراسة إلى أنَّها كُتبت أصلًا باللغة الإنجليزية وتقوم على أسس ومبادئ منهجية موضوعيّة رغم وجودِ بعض الفوائت؛ ونتيجة لشرقيّة مؤلف هذه الدراسة وروحيته الحضارية تجعلها وتجعله أقرب إلى الإسلام وأقدر على فهمه من الداخل، ممّا يعطيها قيمة علمية مضاعفة تستحقها؛ كما أنَّ هذه الدراسة تتميّز بمنهجها الذي يعتمد على "عِلم الدلالة" وهو واحد من أهم مجالات عِلم اللغة الحديثة وأكثرها خصوبة وتعقيدًا، هذه الزاويّة الجديدة تُساهم في تنويع وتوسيعِ تدَبر القرآن.

ينطلق هذا المنهَج من فكرةٍ شاملة تَحثّ المُتّدبر على تَتَبُع التحوّل الجذري الذي أحدثه القُرآن باعتباره نظامًا مفهوميًا جديدًا أعاد صياغَة المفاهيم السابقة وأضاف لها مفاهيما أخرى، وربط فيما بينها ليُنتج رؤيةً جديدةً واسعةً للعالم، تمتاز بمعمار مفهومي عظيم من حيث تَمَاسُكه ومُرونَتِه وتنظيمه.

يرتكز الاشتغال على المفاهيم القرآنية، باستخراج المفاهيم المفتاحيّة المهمة والبحث عنها في السيّاق القرآني، لكن هذا لم يكُن سهلًا كمّا يعترّف الباحث، إنّما يتطلّب ربطها ببعضها البعض، لأنّها تستمد معانيها العيانيّة من نظام العلاقات المُحكَم بينَها، فهيّ تُشكّل بين بعضها مجموعاتٍ متنوعة، لتؤلف في النّهاية مجموعًا كُليّا مُنظمًا وشبكةً في غايةِ التعقيد والتركيب من التداعيّات المفهوميّة.

تعتمد دراسةُ خرائطِ المَعنَى في القرآن على معنيين أسَاسيّين هُما: "المعنى  الأساسي" بوصفه لُبًّا ونواةً للمفهوم، و"المعنى العلاقي" باعتبار انتماء المفهوم إلى منظومةٍ مفهوميّة مُتكاملة يُؤثر فيها ويتأثر بها، ودمجُ هذين المعنيين يكشِف للمُتدبِر وجهًا استثنائيًا آخَر في فهم "الرؤيّة الدلاليّة للعالم" من منظورٍ قرآنيّ.

يرى إيزوتسو أنّ "الله" مفهومٌ مركزٌ يبرزُ بموجبه نظامٌ ضمنيّ له خصوصيّته ويتميّز عن البقيّة، وهو مركزٌ مفهومي لقطاع دلالي مُهمٍ يشتملُ على عدّة مفاهيم مفتاحيّة، عطفًا على ذلك يُؤكدّ الباحثُ أنّ النظام القرآني لا يوجد فيه حقلٌ دلالي واحد غير مرتبطٍ مُباشرةً ولا محكومٍ بمفهوم "الله" المركزي.. وهذا التماسكُ المفهومي في الرؤيّة القرآنيّة جديرٌ بالبحث والتمَعُن!

يتضمّن المنهجُ تحليلًا عميقًا واستنباطًا للبنيّة الأساسيّة للرؤيّة القرآنيّة للعالم، والتي يتعيّن على المُتّدبر أن يتتبَعَها، تتكوّن تلك البنيّة من عدّة مفاهيم: الله، الإنسان، المجتمع المسلم أو الأمّة بتعبيرٍ قرآني، الغيبُ  والشهادة، الدُنيا والآخرة، إضافةً إلى المفاهيم الأخروية.

تتبدّى الرؤية أكثَر عند تفحُصّ العلاقة الوجودية، العلاقة التواصليّة، والعلاقة الأخلاقيّة بين الله والإنسان.

يطرحُ هَذا المنهجُ في التدبر أسئلةً كُبرى مُثيرة للاهتمام وتبقى راسخةً في عقل المُتدبر دافعةً إيّاه نحو مسارات جديدة في فهمِ القرآن والعمل به.

 

كأنَّهُ نُزِّلَ عليكَ!

في الأخير، استحضر ما قاله محمد إقبال حينما سألهُ سليمان الندوي عن سرّ بلاغتهِ التي أكتشف بها أسرار الدين ومعالم الحق ووصل بها إلى أساليب من التعبير قلَّ أن يصل إليها أهل الفقه والعلم وغيرهم من القائمين على أمر الهداية والتوجيه فأجابَ محمد إقبال قائلًا:

" يرجع الفضل في كُلِّ ما أنشأته من شعر أو نثر إلى توجيهات أبي - رحمه الله - فقد تعودتُ أن أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح وكان يراني والدي فيسألني: ماذا أصنع؟ فأجيبه بأنني أقرأ القرآن؛ وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات، يسألني سؤاله فأجيبه جوابي، وفي ذات صباح قلتُ لهُ بعد إجابتي، ولكن لماذا تسألني عن شئٍ أنت بجوابهِ عليم؟؛ فقال لي: (إنَّما أردتُ أن أقول لكَ أقرأ القرآن كأنَّهُ نزلَ عليكَ )؛ ومنذُ ذلك اليوم بدأت أتفهَّم القرآن وأُقبِل عليهِ؛ فكانَ من أنوارهِ ما أقتبستُ، ومن بحرهِ ما نظمتُ ".[5]

 


[1] سورة الحشر، الآية 21.

[2] دار القلم، الطبعة الأولى 1، 1400هـ/ 1980م.

[3] دار السلام للطباعة، قرطبة للبحوث والدراسات والتنمية البشرية، القاهرة، الطبعة 1، 2010 م.

[4] المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ترجمة د. هلال محمد الجهاد،الطبعة 1، آذار 2007.  

[5] سلسلة كتب الأعلام من الفلاسفة، " محمد إقبال شاعر وفيلسوف الإسلام "، الجزء 48.