أثر معروف وثابت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: (إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن)، ومعناه يمنع بالسلطة والقانون أكثر مما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس لضعف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، بل يقدم على الحرام ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطة، فإنه يرتدع، ويخاف، وقياسًا عليه، نستطيع أن نقول: "إن الله يزع بالاعلام، ما لا يزع بالسلطان"، وذلك لخطورة دوره وسطوته على النفس والناس وتشكيل الرأي العام وتوجيهه. و"خطبة الجمعة "هي من الإعلام الأسبوعي، لها دورها الفعال في صياغة سلوكيات الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، وفي إصلاح المجتمع وتزكية النفوس وإعادة تشكيل العقل العام.
وفي تعليق عجيب، قال أحدهم لو جمعنا كل خطب الجمعة التي تقام في يوم جمعة واحد، في كل أنحاء العالم، وأردنا أن نستمع إليها متتالية، فسنحتاج إلى 15 سنة متواصلة! نعم 15 سنة كاملة، استماعا بلا استراحة ولا انقطاع، لسماع الخطب التي تلقى على منابر الجمعة في العالم في يوم واحد فقط! لهذا، تظل خطبة الجمعة فرصة رائعة للنهوض بالأمة ولتصحيح المفاهيم ونشر الوعي، ولمعالجة الهموم اليومية للناس، ومقاومة الشرّ وتقليم أظافر المنكر ونشر الأمل.
وربما لهذه الميزة الجُمُعية، أصبح يوم الجمعة في كثير من الدول العربية يومًا مكروهًا ومُنغِّصًا للكثير من حكام العرب بسب خطبته أو "بيانه المنبري"، وأصبحت لهم عقدة خاصة منه، ولهذا حاولت بعض الأنظمة وما زالت تحاول جاهدةً، قَتْل يوم الجمعة وخطبته بأي صيغة كانت، لأنه اليوم المُحرّك للتاريخ، والموقظ للشعوب، والشاحن للقلوب، وهذا مَرْبَط القلق لدى الحكام الذين لهم شهوة الاستعباد والاستكبار والاستحمار.
إنما جعلت خطبة الجمعة لتَدارُس أحوال المسلمين الحِينيّة في شتى هموم معاشهم ومعادهم، وما يتعرض له المجتمع وما يتطلبه خلال أسبوع وما يستجد عليه من مستجدات في شتى النواحي، إعلامًا وتذكيرًا، ووقايةً وعلاجًا.
ولقد أتى على الخطبة الجمعية زمان، دُجِّنت فيه، وحُوصِرت، وحوربت من طرف الذين رشحوا أنفسهم لمحاربة الدين، وتطوّعوا لتمييع التدين، وعملوا على توجيهها إلى ما يخدم كلمة الباطل ويحقق طروحات المفسدين، فجعلوا من الخطيب تابعًا وظيفيًّا، مُتسَوّلا، لا يقول إلا ما يقوله "عزيز البلاد" ولا يريهم إلا ما يرى، تأسّيًا بمن قال" أنا ربكم الأعلى".
فمن نكبات الجمعات في الزمن الرديء، أنك قد لا تجد فرقا كبيرا بين خطبة سمعتها وأنت في العشرين من عمرك، وخطبة تسمعها وأنت في الستين من عمرك، على رغم كثرة وتجدّد سُيُول المتغيّرات الاجتماعية والدولية العارمة التي تمرّ من تحت جسْر الواقع، لأن المُمْتَطين للمنبر الجُمُعي يغرفون مادتهم من الصفحات الجاهزة، لا من سبّورة الواقع ولحظات المجتمع، متناسبين أن خطبة الجمعة إنما جعلت لتَدارُس أحوال المسلمين الحِينيّة في شتى هموم معاشهم ومعادهم وما يتعرض له المجتمع وما يتطلبه خلال أسبوع وما يستجد عليه من مستجدات في شتى النواحي. إعلامًا وتذكيرًا، ووقايةً وعلاجًا.
إنّ خطبة الجمعة تجمع بين مُكوّنيْن رئيسيّين: ما هو ثابت كالنص الديني من قرآن وحديث شريف، وما هو متغيّر من سمات أسلوبيّة وخصائص تعبيريّة ومضمون ثقافي بألوانه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقِيَميّة، وبالمناسبة، وللتحذير والتذكير، منبر الجمعة ليس مُخصَّصا لبيان آراء الخطيب الشخصية، أو آراء مدرسته الفكرية أو العلماء الذين ينتسب إليهم، أو حزبه الذي ينتمي إليه.
ومن فقه الخطيب ألا يركز على لون واحد من ألوان المشكلات، لأن في المجتمع مشكلات كثيرة كلها تحتاج إلى علاج، كذلك من فقهه عند الحديث عن المنكرات والمعاصي، عليه ألا يوغل في وصف تلك المنكرات وبيان أماكنها وطريقة أهل الشر، لأن الجمعة يشهدها أطياف من الناس منهم البِرّ والفاجر والصالح والفاسق، وضعيف النفس والجاهل، ففي تعليق حول رأيه في خطب الجمعة التي كان يحضرها، عبّر أحد المصلين عن سخطه وقرفه، مما كان يسمع فيها قائلا: كثيرا ما كنت أفكر بالخروج من صلاة الجمعة، والإمام يخطب، والسبب خطبتها؟ إذ للمرة الثانية وعلى التوالي تكون خطبة الجمعة التي حضرتها في أحد المساجد عن سورة من القرآن الكريم، فخطبة اليوم كانت عن سورة الأعلى والخطبة التي سبقتها كانت عن آية الكرسي، وللأسف تحسّ بأنك في أحد المدارس أانك في درس من دروس التفسير، ليس هذا تقليلا من قيمة القرآن وضرورة حضوره في الخطبة، ولكن نريد من الإمام، أن ينظر في همومنا اليومية والمنغّصات التي تؤرّق معاشنا وتضغط على صدورنا!
المطلوب، خُطَبُ جمعة يأتي إليها الناس، ليس فقط لأن صلاة الجمعة فرض! بل لأنهم منجذبون إلى الخطبة ومنبهرون بالخطيب، ولأنهم يشعرون أن هذه الخطبة فعلا تؤثر في حياتهم اليومية، وتغير منهم ظاهرا وباطنا، وأن الخطيب قادر على أن يفرغهم ويملأهم، يوقظهم، يرشدهم ويثقفهم.