إن التمويل سر تعطيل أو تشغيل العمل الساهر على الشأن العام؛ فبدون مصدر دخل قار ومضمون يستحيل القيام بما يقتضيه تحقيق المصلحة؛ مهما عظُم الهدف وسما، فإن حيلة اليد تقلّ وتَضِيق إذا لم تتوفر الموارد اللازمة للتنزيل، فتبقى الكثير من الأحلام والمشاريع حبيسة الجماجم والأوراق، ولا يتسنى لها الخروج إلى الواقع. والدولة الحديثة-على تنوع أنماطها- تنوعت في استجاباتها لهذه الحاجة، واعتمدت في العموم، على الضرائب والمفاوضات مع أصحاب الثروات، فكان ذلك بابًا حرِجا للتوفيق بين مصالح الضعفاء ومصالح الدولة ومصالح ذوي الثروة، وعين الحرج فيه يكمن في تجاذب دواعي الفساد ودواعي العدالة الاجتماعية، وإشاكة تحقيق المصلحة العامة بينهما.

وقلما وُجد في تاريخ الإنسان أداة نجحت في تحقيق الهدف وحمايته والتصدي لمثبطاته مثل الوقف. هذا المحرك المدني المنسي، حارس الاستقلالية المالية، الذي أسهم في نقل مستوى العيش من الكفاف إلى الكفاية [1]، إيمانا بحق العباد في الكرامة والعفاف. حتى عمّ ريّه وتعدى المصارف الأساسية إلى مصارف كماليّة، تعدت الكفاية إلى الوفرة. فما هي حقيقة الوقف؟ وما هي قيمته العمرانية والتاريخية؟

كان أول وقف في الإسلام هو بئر حاء [2] بئر طيبة الماء، تبرع بها أبو طلحة الأنصاري حين هب قلبه لقول الله سبحانه وتعالى «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ» [3]، فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على مبادرته وقال فيها «بخ بخ، ذلك مال رابح، ذاك مال رابح، حبّس الأصل وسبّل الثمرة»[4]، حديثٌ أسلك تشريعا ماليا جديدا، فكان ذلك بادئ أمر الوقف في الحضارة الإسلامية. والوقف لغة هو الحبس والمنع، أما اصطلاحا فقد تعددت تعريفات الفقهاء وفع الشروط والسمات المحقِّقة له، ومن أوجزِها وأبسطِها ما قاله الإمام الحنبلي ابن قدامة مستخلصا من الحديث المذكور أعلاه؛ الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

 

بئر حاء داخل المسجد النبوي الشريف من الجهة الشمالية.

فكان الوقف ركنا ماليا أساسيا للعمل الخيري في الحضارة الإسلامية، حجرٌ أوسعُ وأمتنُ مما حُصر فيه اليوم، عندما قزّمنا معناه وجدواه على بناء المساجد وحفر الآبار، فمذ قام النبي بتحبيس بساتين تركها بعض المجاهدين تحت تصرفه، للفقراء والمساكين وذوي الحاجات، انتشرت الممارسة شيئا فشيئا إلى أن عمّت الصحابة جميعا، فلم يبق صحابيّ إلا أوقف شيئا من ماله، وقد قال جابر بن عبد الله الأنصاري «فلا أعلم أحدا ذا مقدرة من أصحاب رسول الله ص من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالا من ماله صدقة موقوفة لا تشترى ولا تورث ولا توهب».

 ومع مرور السنين أصبحت من العادات والممارسات المتجذرة في الثقافة الإسلامية؛ وشملت مصارِفُها شبكة موسّعة من المنشآت التي تخدم الناس بشتى الطرق، سواء ما كانت تنشئه الدولة أو ما ينشئه الأفراد؛ مساجد، ومدارس، ومستشفيات، وفنادق، وتكايا وزوايا، وبيوت للفقراء، ومطاعم، وبيوت للحجاج، وآبار، مقابر، وأمكنة المرابطة العسكرية، ومؤسسات لتزويد المجاهدين، وأخرى لإصلاح الطرقات والقناطر، وتجهيز للموتى، والعناية باليتامى واللقطاء والمقعدين والعمي والعجزة والمساجين، وتزويج الشباب، وتزويد الأمهات بالحليب والسكر، وعلاج الحيوانات، وغيرها الكثير الكثير، اتسعت الأوقاف إلى أن شملت زوايا رقيقة رهيفة، تعبر عن الاهتمام والوفرة بشكل عجيب، كالزبادي الذي كان يوفر الزبادي للصبي الأخرق الذي كسر زبديّته في طريقه إلى أهله[5].

إن قلبُ الوقفِ مبدأُ طلبِ وجهِ برٍّ بتحبيس مال عن البيع والإرث والوهب، وتسبيل ثمرته لتمويل البر المعين خدمةً لصاحب حاجة. ونبض قلب هذا المبدأ واختلافه عما أبدعت الشرائع الوضعية، هو الخلوص لله. هذه الخاصية أضافت خانة إلى خانتي المال الخاص والمال العام؛ خانة مال الله. مال اقتطَعَه صاحبُه من مال الدنيا وأخرجه إلى الحيز الأخروي، تعبيرا عن نوع سامٍ من الطمع؛ طمع يهذّب الأنانية حين يعِدُها الربح الباقي في عالم لا يفنى فيه شيء، عن طريق إقراض الله سبحانه وتعالى بعض ماله، تصديقا لآيته «مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ»[6]

إن عدم التوازن في هذه الأركان الثلاثة؛ الإدارة، والاستثمار، والمصرف، يمنع عنا مفتاحا من مفاتيح النهضة، فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى أداة ناجعة تخرج بنا من التعويل على القطاع العام وتبرعات الأّغنياء، كلما أردنا تشييد مشروع تنموي، إلى تأسيس مدخول بينيّ تدفقي مستدام ومستقل، ينمي المسؤولية والرحمة عند المواطن. 

وبهذا كانت الأوقاف قطعة حيوية في المحرك الاقتصادي؛ فالرغبة في تسبيلِ الثمرة يشجّع على إنتاجها، وتنوُّع هذه الثمرة يُفضي إلى تنوُّع الإنتاج. فكان أداةً للنماء التدريجي الذي أفضى إلى ما علِمناه من ازدهار حضاري، لا زالت تنطق به المآثر اليوم. ويرجع ذلك إلى أن الوقف الإسلامي له صفات تؤسس للعمران؛ لملء الأرض بما يعمُر البلاد بتَوسِيل محسّنات الحياة للناس، أهمهما؛ الديمومة، الخروج من دائرة الملكية إلى ذمة الوقف يدفّق المال للمصرَف باستمرار مادام الوقف قائما؛ ثم الاستقلالية، فهو مستقل بذاته وضامن لاستقلال مصرَفه، والاستقلالية المالية تورّث استقلالية في القرار، وتؤمن بعض الجهات الحيوية من الاستعمالات الفاسدة مثل التعليم والصحة والمساجد.

عرفت بعض الدول الإسلامية الحديثة انبعاثا للوقف، لكن معالمه لازالت مضبّبة؛ حيث أنها لم تستطع بعد إيجاد ترجمة له باصطلاحات العصر، فقد اهتم البعض بالجانب الإداري ليُحكم التشغيل، والبعض اشتغل بالجانب الاستثماري ليضمن الاستدامة، وقليل من انشغل بكيفية واستحقاق المصرَف. إن عدم التوازن في هذه الأركان الثلاثة؛ الإدارة، والاستثمار، والمصرف[7]، يمنع عنا مفتاحا من مفاتيح النهضة، فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى أداة ناجعة تخرج بنا من التعويل على القطاع العام وتبرعات الأّغنياء، كلما أردنا تشييد مشروع تنموي، إلى تأسيس مدخول بينيّ تدفقي مستدام ومستقل، ينمي المسؤولية والرحمة عند المواطن، لتحقيق التجانس والأمن الاجتماعي. يبقى التحدي الأكبر هو إعادة صياغة الوقف بشكل مرن وشفاف، يحرره من قبضة البيروقراطية، ويمنحه الشفافية اللازمة لاستعادة ثقة الناس، و يوسع إمكانيات مصارفه.