أي عالم واجهه القرآن الكريم ؟

جاء القرآن الكريم بعد أن جاء عشرات الألوف من الأنبياء والمرسلين في كل أنحاء العالم ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)) [غافر،78]، أتى هؤلاء الأنبياء والمرسلون على فترات في كل أنحاء العالم، لم تبق مدينة ولا جماعة ولا عشيرة على الكرة الأرضية إلا جاءهم نبي دعاهم إلى التوحيد ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء،25]. 

ولكن مع ذلك، البشرية كلها حرفت الدين الذي جاء به الأنبياء والمرسلون. نوازع النفس الإنسانية، مطامع الطغاة، مطامع رجال الدين، تعاون الإقطاعيين مع الطرفين في العالم الذين يملكون المال والأرض من عليها وما عليها، هذا الثلاثي عبر التاريخ تعاون في سحق مصالح المستضعفين في الأرض عكس الإرادة الإلهية. لأن الله تعالى قال مؤكداً ضمناً على أن هذا الوضع كان هو السائد: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿٥﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ))، هذه هي العلة التي تحذر منها هذه الفئات الثلاث، أن تذهب أملاكهم، ويذهب طغيانهم. 

فغمر الفساد البر والبحر، ولم يبق إلا أن يتدخل سبحانه وتعالى بنفسه ويرسل كلمته الأخيرة إلى العالمين، هذه الكلمة الأخيرة بُنيت على تجليات أسمائه الحسنى جميعاً، أي القرآن الكريم. 

القرآن الكريم لمن درسه من العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين دخلوا في الإسلام في العصر الحاضر، وجدوا هذا الكتاب فيه كل شيء يتصل بإصلاح الفساد، يتصل بتغيير العالم، يتصل بتغيير النفوس، ويكوّن مجتمعاً جديداً ورأياً جديداً، ويعيد الحق إلى المستضعفين في العالم حتى يخرجوا من الظلم والاستضعاف وينتخبوا ممثليهم حتى يحكموهم وتتخلص البشرية من الطغاة ورجال الدين والإقطاعيين.

لماذا جاء القرآن الكريم كاملاً ومحفوظاً بالله سبحانه وتعالى؟ 

قبل ذلك، أوكل رب العالمين الحفظ إلى أتباع الأنبياء الذين جاؤوا بالتوحيد بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، ولكن خانوا هذه الشهادة ولم يفوا بالأمر. 

والحقيقة أن القرآن الكريم فيه جميع تجليات أسماء الله الحسنى، كلٌ ينكشف في موقعه، انظروا إلى نصيب الرحمة من اسمه في العالم، أعطاه للحيوان و للإنسان، وحتى العالم الطبيعي (الكون) بهذا التوازن الموجود تتمثل فيه الرحمة، وكذلك القهار وكذلك الجبار وكذلك الرؤوف وكذلك القدوس، كل اسم من أسماء الله الحسنى واضح منوّر في القرآن الكريم، وتجلياته واضحة في الكون.

لمن جاء؟ 

جاء لعالمي الجن والإنس، لعالم الإنس في سبيل أن تنطبق فطرتهم على هذا الكتاب، ويقبلوه لأنه آخر كتاب، لا كتاب بعده، وأضيف -وهذا الكلام لم أجده عند أحد والله أعلم في إطار ما أعلم، وأعوذ بالله من كل انحراف- البشرية كلها خلقها الله على فطرة واحدة ولكن هذه الفطرة فيها لكل اسم من أسماء الله الحسنى من النصيب.

 فإذن قبله العقلاء والنبلاء وكل المستضعفين على الأرض -عندما وصل إليهم على التحقيق وبشرح كامل- انطبق ما موجود في القرآن من الأنوار الإلهية على فطرتهم التي فيها مقابل كل اسم من أسماء الله الحسنى. 

فالقرآن الكريم ما دخل في عقل إنسان يفكر وما دخل على دراسة فيلسوف إلا قُبِل، من يوم أن نزل إلى هذا اليوم. إذن، هذا الكتاب جاء كاملاً مكملاً عقيدة وشريعة وسلوكاً، فيه مقومات حضارة وتنمية اجتماعية حضارية في كل بقعة ممكنة على هذه الأرض. 

هذا القرآن الكريم، وفي الحقيقة هي ثلاثة قرائين، القرآن المقروء الذي نتعبد بألفاظه وآياته،  داخل هذا القرآن المقروء يوجد القرآن المنظور (الكون)، أي الظواهر والحقائق الكونية التي حولنا ((أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ)) [ق،6] 

 وتتحدث الآيات كثيرة عن تكوين الكون وعظمته وعن كيفية الاستفادة منه، وهذا أعطى منهجاً علمياً كاملاً لمن يتمسكون بالقرآن الكريم ولمن يطبقونه.

 ولذلك أنا كنت دائماً أقول في محاضراتي السابقة في مساجد بغداد: لا يوجد فرق بين قانون كيميائي وبين آية في القرآن الكريم، هذا فعل الله، وكذلك القانون الفيزيائي الذي كان علماء الفيزياء يحاسبون عليه في أوروبا من قبل الكنيسة ويساقون بسببه إلى المحرقة. وهذا الذي حدث في أوروبا لم يحدث بين المسلمين وفي تاريخ الإسلام، لماذا؟ لأن القرآن مبني على هذه القوانين، والمسلمون استفادوا منها وأنشأوا حضارتهم الزاهرة على هذه الأرض.

إذن هذا قرآن مقروء وقرآن منظور وقرآن آخر يُبَلّغُ هذا القرآن إلى العالم وهو رسول الله (صلى الله عليه و سلم)، من قول أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) : كان رسول الله (صلى الله عليه و سلم) قرآناً يمشي على الأرض.

والعجيب أن القرآن يقابل الفطرة الإنسانية، الأسماء الحسنى في مقابلها تجليات الأسماء الحسنى في البشر، ولذلك قبله البشر، حتى يكون حامله، حامل هذا الدين ومبلغه إلى العالم أيضاً كاملا، أيضاً فيه تجليات كل اسم من أسماء الله الحسنى، من أجل أن يبلغ كاملاً إلى العالم ولذلك سماه القرآن الكريم بالبرهان، ألم تقرأوا في القرآن الكريم ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا)) [النساء،174]

البرهان هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأن شخصيته متوازنة كاملة، صحيح أنه ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ)) هذا كلام نؤمن به لأن القرآن يقول ذلك، لكن هو بنفسه كان برهاناً، حياته ليس فيها لأحد نصيب.

 تختلف حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن حياة كل الأنبياء والمرسلين، يعني لو قلت أن الله تعالى جمع في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حياة جميع الأنبياء المرسلين ما جاوزت الحق، لأن الأنبياء المرسلين الذين جاؤوا قبل الإسلام لم يجمع رب العالمين في كتابهم ولا في حياتهم كل الأسماء الحسنى، إلا القرآن الكريم، و لذلك وجب وجود جميع تجليات الأسماء الحسنى في الإنسان الذي سيحمل القرآن إلى العالم.

ثلاثة أضلاع قرآنيّة في مواجهة العالم 

إذن عندنا في مواجهة القرآن للعالم ثلاثة أضلاع مثلثة متكاملة، القرآن الذي يحمل الأسماء الحسنى كلها، والبشر الذين أعطاهم نصيباً من كل اسم من الأسماء في حدود بشريتهم -والعياذ بالله هناك هناك فرق بين الأسماء الحسنى (صفات الله) وبين وجودها في الإنسان، وجودها في الإنسان تكون في إطار بشريته- ثم الضلع الثالث وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ولذلك فيلسوف كبير مثل (روجيه غاوردي) لما بدأ بعقليته الحرة يبحث، ولا يجد رابطاً بين مكونات الوجود الإنساني، وأنا تابعت كتابات هذا الرجل في السبعينيات والثمانينيات، وقلت بأن هذا الرجل سيصل فيما يبحث عن الحق، سيصل إلى القرآن الكريم، سيصل إلى تجليات الوجود في القرآن الكريم، سيصل إلى الذي يربط هذه التجليات، ووصل في الأخير إلى الرابط.

ما هو رابط تجليات الوجود في القرآن الكريم؟ 

التوحيد، لا إله إلا الله، رب العالمين لا يحمل غيره هذه الأسماء. التوحيد ينبث في كل جزئية من جزئيات حياة البشر، إذا كان من ناحية العقائد والأسس، أو إذا كان في ناحية الشرائع والعبادات والمعاملات، وفي كل شيء، في أمور الحضارة. التوحيد في الإسلام يربطها، ولذلك عظمة هذا الدين في هذا الذي جعل العالم يقبله في كل أنحاء العالم، لأن الله تعالى أراد ذلك، أراد أن ينتشر هذا  الدين في العالم، عبر التوحيد، والتوحيد يمثل المنطق الداخلي الظاهر والباطن لكل ما جاء به القرآن الكريم في كل أمر جاء به الإسلام الشامل الكامل.

التوحيد إذن، أصبح القانون الجواني للإسلام، والقانون الفوقاني الظاهر للإسلام، وهذا التوحيد استمر مؤثراً ومكوناً للإنسان في القرن الأول للإسلام، هذا التوحيد كون النخبة من المهاجرين والأنصار، لأن الله تعالى أراد أن يثبت للبشر أن هذه التعاليم التي أرسلها للناس قابلة للتطبيق.

كيف كانت مواقف أهل الجاهلية مع هذا القرآن؟

نحن نستغرب كيف فهم العرب في الجاهلية هذا الدين وقاوموه هذه المقاومة الكاسحة!  والحقيقة أن زعماء قريش كانوا عقلاءً بالمقاييس الدنيوية!

أضرب لكم مثلًا واضحًا، جاء زعماء قريش إلى أبي طالب، فقالوا يا أبا طالب نريد أن نكلم ابن أخيك محمداً، فأرسل أبو طالب، فجاء رسول الله (صلى الله عليه و سلم)، فقال له أبو طالب: يا ابن اخي هؤلاء زعماء قريش يريدون أن يسمعوك، فتصدى له أبو جهل هشام بن الحكم، فقال: يا محمد إلام تدعونا؟ قال إلى كلمة واحدة. (ظن أبو جهل أنها كلمة سهلة يسهل التفاهم معها)، فقال أبو جهل: وعشراً معها. فقال رسول الله، ولكنني أدعوكم إلى لا إله إلا الله، فانتفض الجميع وخرجوا فوراً بدون نقاش. وراجعوا بذلك بداية سورة (ص). 

لماذا هذه المقدمة؟ حتى نصل إلى مقام آخر نتساءل فيه، هل تكرر هذا التكوين في الأجيال اللاحقة من المسلمين بعد تكوين النخبة الأولى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟