تمنيت عندما كنت أقرأ البداية والنهاية لابن كثير أو تاريخ ابن الأثير في عملهم الموسوعي أن لو تابعهم أحد فكتب وفصل في مجلدات كبيرة استعرض فيها التاريخ الإنساني كما فعلوا. وهم في الحقيقة وبالنسبة لإمكانية عصرهم من بعد الشقة وتباعد المسافات وخطر السفر وعدم توفر المراجع يتعجب المرء من غزارة إنتاجهم. 

ولكن ما فعله ويل ديورانت شيء مذهل وهو يروي عن نفسه أنه بدء بما سماها (بيضة الذهب) فقد كتب في الفلسفة قبل التاريخ وكنا محظوظين بميوله الفلسفية، لأنه كتب التاريخ بعد ذلك على قدر كبير من النضج وبهذه الأدوات الممتازة من المعرفة الموسعة. 

يقول ديورانت إن كتابه (قصة الفلسفة) لاقى رواجاً غير عادي مما در عليه من الربح الشيء الكثير، بحيث وفر له من سبل المعيشة أن لا يكدح في تحصيلها. لجأ ديورانت إلى الريف الأمريكي الهادئ فاعتكف لمدة نصف قرن لإنتاج كتابه الضخم (قصة الحضارة) وحسبما ذكر عن نفسه فإنه كان يقرأ خمسة آلاف كتاب قبل أن يكتب مجلداً واحداً وبالمناسبة فقد كتب 42 مجلداً عن الحضارة ومن المحزن أنه انتهى عند عصر الثورة الفرنسية ولم يتابع لأنه شعر أنه لم يعد يستطيع أن يتابع أكثر من ذلك لضخامة المهمة وتشعبها وهي خسارة كبيرة من رجل استوعب العمل التاريخي ونضج فيها وعسى أن يسخر الله للمستقبل إنساناً يستطيع أن ينجز هذه المهمة.

وعندما كنت عند صديقي صلاح قال لي إنني أستمتع بما تكتب ولكن (البيوغرافي) أي سير حياة الشخصيات الهامة أصبحت من أكثر الكتب المباعة في السوق الأجنبية، فاعترفت له بذلك، وهو في الواقع لفت نظري إلى هذا الجانب الحيوي ومازلت أتذكر نفسي وأنا شاب يافع أن عدداً من الرجال أثر فيّ على نحو كبير وخلع على تصرفاتي تغيرا ملحوظاً فوعدته بالكتابة في هذا الموضع وسأحاول من حين لآخر استعراض حياة بعد الرجال الهامين على الأقل في جانبه الحيوي الذي يفيد القارئ.

كتب التاريخ تمتاز بأنها تكتب على نحو مختلف؛ فمثلا الكاتب البريطاني ويلز قام بجهد خارق ومضغوط لاستعراض كل التاريخ بدء من الخلايا الوحيدة على الأرض إلى الإنسان وكل ذلك في أربعة مجلدات، وهو جيد لأنه يعطي تصوراً عاماً (بانوراما) عن كل رحلة الحياة.

أما المؤرخ توينبي فقد حرص في دراسة موسعة استغرقت أيضاً قريباً من نصف قرن أن يفهم ظاهرة الحضارة ومن هنا كان كتابه هاماً في التحليل التاريخي وإدراك قوانين حركته، وأما كتاب قصة الحضارة لديورانت فهو سرد طويل مع تحليل ممتع فجمع بين فضيلتي سرد الأحداث والتعليق الفلسفي ومحاولة إنصاف كل حضارة وقام الرجل بعشرات الزيارات قبل أن يكتب سطراً واحداً مما يذكرنا بجهود علماءنا الأسبقين. 

وهو يذكرني بالجهد الذي قام به عبد الله عنان حين كتب سبع مجلدات عن تاريخ الأندلس ودولة المرابطين والموحدين وشمال أفريقيا، كتبه على امتداد ربع قرن في عشر زيارات علمية للمواقع؛ بل بلغ به الأمر أن ذهب إلى مكان موقعة العقاب (عام 1212 ـ 16 يوليو) ليعثر في الأرض على بقايا أنصال! وأخيرا بين يدي كتاب مذهل له عن الخطط المصرية في استعراض للتاريخ المصري، وذهلت حين وقع نظري على فصل فيه عن الفناء الكبير والمشقة الكبرى وهو يستعرض الأمراض التي ضربت مصر مع التواريخ.

 وأهمية هذا الفصل أنني اطلعت عليه ونحن في حجر صحي على مستوى العالم من تفشي جائحة الكورونا وموت أكثر من ربع مليون خلال أشهر قليلة وإصابة أكثر من ثلاثة ملايين إنسان (شتاء وربيع 2020م) ومما ذكر عنان في كتابه عن مصر أنه عام 794 هجرية الموافق لعام 1348 ميلادية ضرب القطر مرضا حمل إلى المقابر على حد قوله 900 ألف إنسان من القاهرة، وأن الأمر من المجاعة بلغ حدا أن البشر كانوا يخطفون ويأكلون! وحين ينقل عن تغري بردي والمقريزي يشعر أنهم لم يكونوا يدركون أن هذه الجائحة كانت تضرب العالم الغربي بأشد، مما جعل ما يقرب من ثلث الساكنة في أوروبا تنحدر إلى المقابر والبلى.

 وحين سمعت عن أثر كورونا في إيطاليا تذكرت ما ذكره عنان في كتابه لكن ابن خلدون الألمعي ذكر في مقدمته عن أثر المرض وكيف يزهق روح الحضارة؛ فتنبأ بشمس الأفول على العالم الإسلامي وهو يستعرض الطاعون الجارف الذي حيف الأمم على حد تعبيره أنه أتى في وقت اندثرت فيه الحضارة وكأنّ مانزل بالمغرب هبط على المشرق وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب والله وارث الأرض ومن عليها.

ولذا أنصح القارئ بالاطلاع على تراث ويل ديورانت وتوينبي وويلز ومن عندنا عبد الله عنان وابن خلدون وابن كثير وسير أعلام النبلاء وسير مشاهير النساء أيضا أظنه للزركلي بالإضافة إلى التاريخ العقلي عند المسلمين بمجلدات أيضا زادت عن خمسة بعنوان فجر الإسلام وضحى الإسلام لأحمد أمين، وقد مكتب ابنه كتابا مؤثرا صغير عن المسلم الحزين في القرن العشرين، ولا أدري ما أقول أنا في القرن 21 والشرق الأوسط في كارثة. 

وأرجع إلى ديورانت والعمل الذي قام به على مدار نصف قرن وإن الإنسان ليتعجب من هذا الجهد العملاق الذي قام به فرد واحد ولكن العمل العبقري يتكون في دماغ واحد. إن متعة القراءة في هذا الكتاب الموثق والمترجم إلى العربية بغير حدود ويجب لكل طالب للثقافة أن يضع له برنامجاً خاصاً في حياته لقراءته كله وهو أقل ما يفعله أمام من جمعه وكتبه.