إن بيتَ المقدسِ جزءٌ منَ العقيدةِ وقضيةٌ إسلاميةٌ وآيةٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجل؛ ذُكِرَ في القرآنِ الكريمِ باسمِ الأرضِ المقدّسةِ؛ بقولِهِ تعالى في سُورةِ المائدةِ الآيةِ الواحدة والعشرين (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ).
واستَعملتِ الكثيرُ منَ الأحاديثِ النبويّةِ الشريفةِ لفظَ بيتِ المقدسِ للدِّلالَةِ على المدينةِ والإقليمِ؛ ففِي حديثٍ اعتبَرَهُ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنّه أرضُ المحشرِ والمنشر، وفي روايةٍ أخرى يُشيرُ إلى مدينةِ أريحا باعتبارِهَا جزءً من الإقليم، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، هنا يُشيرُ إلى فتحِ يُوشَعَ لأريحا يعني أنها ضمنَ اقليمِ بيتِ المقدس.
وفي عهدِ أبو بكرٍ رضيَّ اللهُ عنهُ لما كانَ خالدُ بنِ الوليدِ في العراقِ أرسلَ له أبو بكرٍ رسالةً قال فيها: ((أسرِعْ إلى نجدَةِ اخوانِكَ في الشامِ، فواللهِ لَقَريَةٌ من قُرَى أرضِ المقدسِ يفتَحُها اللهَ عليكَ أحبُ إليَّ من رِستَاقٍ عظيمٍ من رَساتيقِ العراق))، "لقريةٍ من قُرى" أي اشارة إلى أن اقليمَ بيتِ المقدسِ هو الارضُ المقدسةُ والتي تشمَلُ قرى كثيرةً وغيرُ مقتصرةٍ على مدينةٍ أو قريةٍ واحدةٍ.
من هُنا ومن أدلةٍ أُخرى توصّلَ البروفيسُور عبدُ الفتاحِ العْوَيْسِي وطُلابُهُ إلى أنَّ إقليمَ بيتِ المقدسِ حدُودُهُ ثابتةٌ تشمُلَ مدنًا وقرىً كثيرةً، وهو إقليمٌ غنيٌّ بخلفِيّةٍ تاريخيةٍ خِصبةٍ وبأهمية دينيةٍ وارتباطاتٍ ثقافيةٍ وبادعاءاتٍ سياسيةٍ دينيةٍ تنافسيةٍ، كما يلقى اهتماماتٍ دوليةٍ تُؤثِرُ في بقيةِ العالمِ في الإطارَينِ التاريخيِّ والمعاصِرِ والمستقبليِّ.
إنَّ بيتَ المقدسِ أرضٌ مقدّسةٌ ومباركةٌ لأنهُ يقعَ داخلَ بلادِ الشامِ وفي وسَطِهِ مدينةُ بيتِ المقدسِ ومركِزهُ البيتُ المُقَدَّسَ (المسجدُ الاقصى المبارك).
كما أَنَّ بيتَ المقدسِ ومسجِدَهُ الأقصى، بوابةُ العبورِ من الظُلمَةِ إلى النور ومن الباطلِ إلى الحقِّ، ارتبطَ به قُدوتُنَا محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وصحابَتُهُ رضيَ اللهُ عنهم منذُ بدايةِ البَعثةِ، وتُوّجَت علاقتُهُم بحادثةِ الإسراءِ والمعراجِ، تلكَ الحادثةُ التي قالَ عنها البروفيسور عبدُ الفتاحِ العْوَيسِي أنها نْقطةُ تَحوْلٍ جَذريةٍ فاصلةٍ وفتحاً روحياً، مَنحتِ الأملَ للمسلمينَ كافةً وأَرْستِ الرحلةَ إلى بيتِ المقدسِ وخاصةً مسجِدَهُ الأقصىَ ومنهُ إلى السماواتِ العُلا، تلك هي مركَزِيّةُ بيتِ المقدسِ وأهمّيّتُهُ الرُّوحية.
وكان قبلتهم طَوالَ الفترةِ المكيةِ وستةَ عشر أو سبعةَ عشَرَ شهراً بعد الهِجرةِ، وقرؤوُا وتمَعَنُوا الآياتِ القرآنيةَ التي تحدّثَت عنهُ وقِصَصَ الأنبياءِ الذين ذهبُوا إليهِ وهم في مكةَ ثم استمَعُوا وأنصتُوا لأحاديثِ نبِيّهِم وهو يتحدثُ عنهُ، فزادَ شوقُهُم وبدؤوا يُعدّوُا العُدّةَ لنُصْرَتِه، حتى ارتبطُوا بهِ دينياً.
كمَا تابعُوا أخبارَهُ وهم يُعذّبونَ منتظرينَ فرجَ الله بهزيمةِ الفُرسِ المشركين الذين يُؤيّدهم كفار قريش، وصدَقُوا اللهَ فجاءَتهُمُ البِشَارَةُ التي انتظرُوهَا وهذا ما وثق ارتباطَهُم بِه سياسيا.
ثم تجهّزوا على كافةِ الأصعدةِ، وسُيّرَت غزَواتٌ وبَعثَاتٌ اتجاهَهُ لفتحِهِ حتى فَتحُوه وطهّروهُ بطريقةٍ عسكَريةٍ بعد توكُّلِهِم على الله وسيْرِهِم على نهجِ قائدِهم عليه الصلاة السلام، فأرسل أبا بكر رضي الله عنه جيشا كبيرا بقيادة خالد بن الوليد إلى بلاد الشام وفتحوا أجنادين ومرج الصفر وحاصروا الروم تمهيدا لفتح بيت المقدس، وتوفي أبا بكر وهو يوصي الفاروق بالجهاد فسار على خطاهم وعيّن أبا عبيدة بن الجراح قائدا للجيش الإسلامي في بلاد الشام ثم حضرَ الفاروقُ بنفسِهِ لبيت المقدس وفتحهُ بدونِ قتالٍ وانتشرَ فيه الأمن والأمان والسلامُ وطُبّقتِ العهدةُ العمريةُ ثم بدأَت عِمَارَةَ المسجدِ الاقصى في العهدِ الأُمَويِّ واستَمِرَ السلامُ حتّى نهايةِ العهدِ العباسيّ وبدايةِ العهدِ الفاطميِّ الذين سلَّمُوا بيتَ المقدس للصليبيينَ عام أربعمائةٍ واثنينِ وتسعينَ هجريةٍ فأراقوا الدماءَ ولم يَسلَمْ أحدٌ من بَطشِهِم.
دخلُوا بلادَنا بدوافِعَ وحِججٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وعسكريةٍ؛ وبقيَ المسجدُ الأقصَى تحتَ سَيطرَتِهِم ثمانٍ وثمانينَ عاماً حتى هيّأَ اللهُ نصرَهُ بجُندِهِ، فقد حرّرَهُ من جديدٍ صلاحُ الدينِ الأيوبي الذي سار على دربِ عمادِ الدين ونورِ الدينِ الزنكي عام خمسمائةٍ وثلاثة وثمانين هجرية.
لِيُسلِّمَه الكاملُ محمدُ للصليبيين سنةَ ستمائةٍ وستةً وعشرين هجريةً، ويستردَّه الناصرُ داودَ سنةُ ستمائةٍ وسبعةٍ وثلاثين هجريةً ثم ليُعادَ تسليمُه للصَّليبيينَ سنةُ ستمائةٍ وواحدٍ وأربعين هجريّةً حتى استردَّهُ الخوارِزْمِيّةُ من جديدٍ سنةُ ستمائة واثنين وأربعين هجرية.
ثم احتلَّهُ الانجليزُ في الحربِ العالميةِ الأولى وأنشئوا الكيانَ العازِلَ فيه وما زالَ هذا الاحتلالُ مستمراً ليومِنا.
وما زالَ بيت المقدس محطّ أنظارِ العالمِ والصراعاتُ مستمرة حولَهُ، ولكن سيعودُ بإذنِ الله لأصحابهِ، فلا عِزّةَ للعربِ والمسلمينَ بدونِه كما قال البروفيسورُ العويسي وأنهُ رمزٌ لعزةِ العربِ والمسلمينَ ومحفزٌ لتحريكِهِم ووضعِهِم أمامَ مسؤولياتِهم للنُّهوضِ والتقدُّمِ، وهو من أهمِّ عوَاملِ وحدَتِهِم والمقياسِ الحقيقيِّ لعزَّتِهِم وذُلِّهِم، وهو المِرآةُ التي تعكِسُ أوضاعَ المسلمينَ بصفةٍ عامةً والعربَ بصفةٍ خاصةٍ، فواقِعُ بيتِ المقدس يعتَمِدُ على واقعِ المسلمينَ والعَكس، وبالتالي لابدّ من التخطيطِ المُستَقبليِّ لتاريخِ بيتِ المقدسِ لأنَ مستقبلَ العربِ والمسلمينَ يعتمدُ على بيتِ المقدسِ والعَكس، من هنا ندركُ أهميةَ المعرفةِ ونيلِها لأن المعرفة تقود التغيير والتحرير.