خير سفير ضد النباتية
عندما أتحدث بما لا يصب في صالح النباتية، تأكد أني مصدرٌ موثوق به وغير متحيّز. فأنا نفسي... نباتية منذ 20 عامًا ومازلت. فقد تدرجت مع مراحل النباتية على مدار الـ 20ـ سنة الماضية، بداية من تبني نظام غذائي لا يحتوي على اللحوم والطيور ويحتوي فقط على الأسماك ومنتجات الألبان pescatarian، أتبعت ذلك بتبني نظام نباتي يحتوي على منتجات الألبان والبيض vegetarian، وبعدها ومنذ 3 سنوات تحولت إلى vegan لا أأكل منتجات الألبان ولا البيض ولا أية مشتقات حيوانية بما فيها السمن والزبد الحيواني. فعندما لا أشجع الناس على النباتية، يكون لدي ما أقوله بمصداقية بفضل الله.
لماذ أصلاً تود أن تكون نباتيًا؟
كنت دواكانمًا مادةً خام للدعابة والمزاح من أصدقائي وأهلي لكوني نباتية. لكم أن تتخيلوا كمّ النكات التي أسمعها باستمرار خاصةً عندما أكون في مطعم مع مجموعة وأعاني للحصول على وجبة وشرح متطلباتي لنادل المطعم في حالة بين اليأس والرجاء في أن يفهمني. ولكن في الآونة الأخيرة، انتشر برنامج لشخصية عامة شهيرة يتحدث عن "النباتية" ويشجع الناس على أخذ هذا القرار الحاسم في حياتهم. ولأول مرة، تحدث شخص عربي باللغة العربية عن فضائل النباتية وكوارث اللانباتية بعد أن كانت تلك الملاحم الغذائية مقصورة على الناطقين بالإنجليزية والمهتمين بهذه الأمور أصلاً. وفجأة وجدت أن عددًا من الأصدقاء يفكر في خوض تجربة النباتية! رائع، ولكن لماذا؟ تترواح الأسباب في كون الإنسان راغبًا في النباتية. منها أسباب صحية لها علاقة بحساسية ضد مكونات الألبان مثلاً أو عدم القدرة على تناول طعام معين بسبب مرضٍ ما. ومنها أسباب تتعلق بالرأفة بالحيوان. ومنها أسباب نفسية كعقد الطفولة كأن يرى الطفل أهله يذبحون خروف العيد الذي كان قد وطّد معه علاقة صداقة على مدار أسابيع سابقة، أو كحالتي أنا لكرهي للحروب والمذابح والدماء المُراقة أمامي على الشاشات في كل مكان، فلا أستطيع تناول أي شيء له علاقة بالدماء. أيًا كان الدوافع، يجب أن يكون لديك سبب. إذا كان لديك فضول لتجربة نظام غذائي جديد، كان بها. ولكن لا تُلزم نفسك بنظام قاسي ومتطرف وأنت تشتهي ما تمتنع عنه، بدون سبب واضح أو بدواعي الرقي والتحضر مثلاً!! فهل لديك سبب؟
أنت لست سفاحًا قاتلاً عندما تأكل اللحوم!!
ما أتوقعه في ظل موجة موضة النباتية القادمة للوطن العربي، هو أن ينتفض النباتيون المتطرفون لإنقاذ العالم من غير النباتيين أمثالك. وربما انتهزوا كل فرصة لانتقاد وحشيتك المشينة وأصابوك بغصة في حلقك وأنت تحاول أن تأكل شريحة اللحم المشوية المنتظرة أمامك، أو ربما أُصبت بعسر الهضم بعد التهامها. أعتقد أنك يجب أن تتحلى بالثبات الإنفعالي والهدوء والتفهم لهؤلاء النباتيين الجدد، وربما بعض الحسم أيضًا إذا تمادوا حتى يدركون ضرورة احترام اختيار كل شخص لما يحب أن يأكل... وبالمناسبة، ربما يكون من الجيد أيضًا أن تطبّق نفس الشيء وتتوقف عن المزاح الثقيل أو انتقاد النباتيين الأبرياء أمثالي. أنت لست سفاحًا قاتلاً لتناولك اللحوم. والنباتيون ليسوا أرانبًا أليفة تحتاج من يربت على رأسها بحنان!
المشكلة ليست في الطعام، بل في طريقة إنتاجنا له
ستسمع إدعاءات كثيرة وحقائق صادمة كثيرة ترهبك وتنفّرك من تناول اللحوم ومنتجات الألبان. ستسمع عن الهرمونات الضارة في الألبان. ستسمع عن وحشية إبعاد صغار الأبقار عن أمهاتهم بعد الولادة حتى لا يستهلكون حليب الأم الذي يجب أن يصلك أنت بجانب ماكينة القهوة بالمطعم أو يكون في منزلك لاستمتاع صغارك أثناء مشاهدتهم لبرنامجهم المفضّل. ستشاهد مقاطع مرئية صادمة لتجار يحقنون الطيور المذبوحة بسوائل لتبدو أكبر حجمًا وأثقل وزنًا. ستسمع عن الأسماك المشّعة وعن ارتباط استهلاك اللحوم بمرض السرطان الخبيث.
لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الطعام، بل في طريقة تربية الحيوانات والطيور والأسماك وطريقة إنتاج كل ذلك. وأنا شخصيًا لي صديقة كانت لديها حساسية شديدة من منتجات الألبان في كندا، وعندما انتقلت إلى فرنسا، اختفت لديها تلك المشكلة! وأنت وأنا نعلم أن أجدادنا لم يكن لديهم ذلك الكم الهائل من المشكلات الصحية المرتبطة بالطعام عندما كانوا ينتجون كل شيء في منازلهم.
لا شك أن إنتاج كميات مهولة من الألبان والأجبان واللحوم يتطلب مصانعًا هائلة ومواد حافظة ومضادات حيوية تُعطى للحيوانات وتبقى في لحومها وألبانها، كما يتطلب الأمر مراحل إنتاج متعددة تُفقد الطعام قيمته الغذائية. كما أن المصنّعين غالبًا ما يلجأون لطرق غير أخلاقية لزيادة الإنتاج وجودته، كأن تتم تربية العجول في أماكن ضيقة تحد من حركتها حتى لا تقوى عضلاتها مع الحركة الكثيرة وتتليف ولا تصبح سهلة الطبخ أو شهية المذاق!
كل هذه ممارسات فاسدة ويجب محاسبة القائمين عليها ووضع قوانين إنتاج صارمة وملزِمة للمنتجين. لذلك فإن كلمة "حلال" لا تعني فقط طريقة الذبح. بل تعني معاملة الحيوان بطريقة أمينة وأخلاقية في كل مراحل الإنتاج. لذلك لا تلوم الطعام ولا تمتنع عنه. ولكن افعل ما في وسعك لإجبار المنتجين على الالتزام بمعايير صحية وأخلاقية.
الحلول الوسط
لا تحتاج لأن تصبح نباتيًا بالضرورة. هناك العديد من الخطوات التي يمكنك اتخاذها لتحمي نفسك وأسرتك بل والكوكب مما يمكن أن ينتج عن كونك غير نباتي. أذكر منها:
- قلّل الاستهلاك من كل منتجات الألبان واللحوم والطيور والأسماك. بالتأكيد التوازن مهم جدًا والاعتدال في تناول كل شيء أكثر أهمية.
- احرص على تحري مصادر طعامك. شجّع الصناعات المحلية. ابحث عن المشاريع الصغيرة التي تقوم بتربية الدواجن والحيوانات. قم بزيارتها للتأكد من نظافة العمليات فيها وطريقة التعامل مع الحيوانات. قم بشراء حاجاتك من اللحوم والألبان والأجبان والبيض منها. الألبان مثلاً التي تأخذها طازجة من مزرعة وتقوم بغليها وحفظها بنفسك، أفضل بكثير من الألبان المتاحة في السوبر ماركت.
- أيضًا وتابعًا لنقطة تحري مصادر غذائك، احرص على تحري مصدر الأسماك للتأكد أنها آتية من مياه بحار ومحيطات غير ملوثة وأنها لا تأتي من مزارع سمكية بمواصفات غير آمنة.
- يمكنك الابتعاد عن منتجات الألبان لفترة 6 أشهر مثلاً وراقب تأثير ذلك على صحتك سلبًا وإيجابًا.
- زِد من كميات الخضراوات والفواكه في وجباتك.
هل هذا عبءٌ ثقيل؟
بالتأكيد ذلك التحري الدائم، هو عمل مرهق وثقيل على النفس. ولكن إذا كنت تفكر في أن تصبح نباتيًا، لن يكون هذا الخيار سهلاً أيضًا. فالأفضل أن تبذل الجهد في تحسين الممارسات الإنتاجية للمنتجات الحيوانية ومشتقاتها في مدينتك أو بلدك، بدلاً من أن تأخذ قرارًا سلبيًا بالانسحاب من معركة الوعي والضمير تلك. لا تقرر النجاة بنفسك فقط.
لكل شيء جانب مظلم والنباتية ليست هي الخيار الآمن؟
إذا كنت تتخيّل أن النباتية هي الخيار الآمن، فكّر مجددًا! إليك بعض المحاذير الهامة:
- أقرأ عن مخاطر المواد المُضافة، والمبيدات الحشرية، ومُحسّنات الإنتاج للنبات! هناك الكثير من المعالجة الجينية والكيماوية التي تحدث للنباتات لتصلك الخضروات والفواكه بأحجام معينة واستدارة مغرية ومذاق معين. إن المعلومات المُتاحة عن تلك المخاطر والأضرار، تحفّز تجارة الفواكه والخضروات العضوية organic والتي تتكالب الناس عليها غير عابئين بأثمانها المُضاعفة، وذلك أملاً في تجنب هلاكًا ومصيرًا محتومًا. هل سنقول نبتعد عن الخضراوات لذلك؟ لا. نقول أنها مشكلة إنتاج أيضًا ونحاول التعامل معها.
- إذا تحولت للنباتية، عليك أن تتابع تحاليل الدم بصفة دورية لمراقبة نسب الحديد والـ B12 وغيرها من الفيتامينات والمعادن في جسمك. نقصان تلك العناصر هو مشكلة حقيقية للنباتيين. وأغلبهم يحتاج لأخذ حبوب بديلة للفيتامينات يوميًا. وعليك أن تثقّف نفسك حول الأعراض الجانبية لتلك الفيتامينات البديلة والتي تترواح من حصول الجسم على الفيتامينات بشكل جاهز فيثبط ذلك عمليات إنتاج الفيتامينات الطبيعية بالجسم، مرورًا بعدد آخر من الأعراض الجانبية والأضرار العامة والخاصة الناتجة عن أخذ جرعات غير مناسبة من تلك الفيتامبنات (التي هي في الحقيقة أدوية). وبين أن تنسى أخذ تلك الحبوب وبين أن تأخذها وأنت تتوجس خيفة من آثارها السلبية، قد تكون في مأزق حقيقي.
- ومع مشكلة نقص العناصر الأساسية في الجسم والتي ستجد أثرها في الشعور بالإرهاق وقلة الدافعية، سيتحدث جسدك ظاهريًا لك أيضًا. ستخبرك الهالات السوداء تحت عينيك، وتساقط الشعر وضعفه وتقصّف الأظافر وغيرها من الأعراض، سيخبرك كل ذلك بأن جسدك جائع نوعيًا وإن لم يكن كميًا ويحتاج منك لعناية بالغة، فانتبه.
- هناك العديد من المقالات المثيرة للفضول حول ما سيحدث في العالم لو تحولت كل المخلوقات للنباتية! تترواح النتائج تطرفًا يمينًا ويسارًا ما بين أننا سننقذ الكوكب وننهي معاناة ملايين الحيوانات وبين أننا سندمره وستنقرض فصائل من النبات والحيوان بالكلية وسيتم إرهاق مواردنا المائية! الأمر ليس سهلاً ولا واضح النتائج. فلا داعي لأن ندعو لثورات غذائية وأن نتعصّب وأن نرغي ونزبد ونحن غير ملمين بنتائج ما ندعو إليه على المدى بالعيد بشكل كامل سواء بالنسبة للشخص نفسه أو للكوكب ككل!
مناظرات ومعارك طاحنة!
ربما تعلم الآن أن كل شيء له ما له وعليه ما عليه. أي شيء يمكن أن تفكر فيه، ستجد من يعترض عليه وتجد من يؤيده وكلٌ يوثق ما يقول بدراسات. الأمر المؤسف هو أننا لا نعلم من يمول الكثير من الدراسات اليوم! هناك شركات الأدوية التي من مصلحتها تمويل الدراسات التي تجعلك مقبلاً على المقويات والفيتامينات البديلة. وهناك منتجوا الصناعات الغذائية بكل أنواعها، كلٌ يموّل الدراسات يرهب بها من ينتج منتجًا ينافسه ويرغب بها الناس ليقبلوا على منتجه. هناك من يرهبك من كل شيء حتى التطعيمات للأطفال ويدعوك لمقاطعتها. هناك من يرهبك من منتجات الألبان ومن اللحوم ومشتقاتها. وهناك من يرهبك من النباتات ويوصيك بنزع قشرتها وبذورها أو ينصحك بضخ الأموال من أجل نظام غذائي عضوي. وهناك من يرهبك من الفيتامينات البديلة ومخاطرها وخصوصًا على المرأة الحامل والمُرضع. ومعظم تلك الدراسات فيها جزء من الحقيقة وجزء من التحيّز.
هذا إلى جانب المسميات المُضلّلة المطبوعة على المُنتجات. فكلمة مُنتج "طبيعي" لا تعني أن المنتج طبيعيًا بنسبة 100%، بل تعني أنه به حد أدنى من المواد الطبيعية الذي تحدده مصلحة مراقبة الصحة الغذائية في هذا البلد. فالأمر فعلاً مُعقّد ويحتاج لبحث وفهم.
لا تلق بالاً لكل ذلك. اعمل عقلك. استمتع بحياتك في اعتدال. قم بتحرّي مصادر غذائك ولا تترك عقلك فريسة سهلة لكل ذي غرض لا تعرفه!
طعام الجنة
وأخيرًا، الله ﷻ، قد أحل لنا النبات واللحوم والطيور والأسماك والألبان، فلم تحرمّها أنت أو تستمع لمن يحرّمها! وطعام الجنة، جعلنا الله وإياكم من قاطنيها، يشتمل على الفواكه والخضروات ولحوم الطير وكل ما نشتهي وما لم يخطر على قلوبنا من متع بإذن الله. وما نفعل نحن بممارساتنا الخاطئة سواء في تربية الحيوانات أو مراحل الإنتاج أو الإسراف في الاستهلاك، لا يقلل من شأن نعم الله عز وجل علينا. بل يجعله من واجبنا أن نحرص على تحسين آلياتنا ونظم حياتنا لتحقيق الميزان وحفظه. الإنسان لم يُخلق كائنًا نباتيًا. فعِش حياتك مستمتعًا بما تشتهي مما أحل الله ﷻ لك!
رسائل أخيرة
دع الخلق للخالق! لا تنتقد أحدًا بسبب اختياراته في الطعام ولا تسخر من أحد لكونه نباتيًا أو لانباتيًا..
أطالب المطاعم بإتاحة خيارات أكثر للنباتيين في العالم العربي. أيضًا يجب أن يتيحوا التدريب الكافي لموظفيهم حول الأنظمة الغذائية وقدرة النادل على إجابة أسئلة العميل حول مكونات الأطباق والأمانة في الكشف عن أية منتجات لا يحب العميل أن تكون في طبقه.
لا تحتاج لأن تصبح نباتيًا إذا لم يكن لديك سببًا هامًا لذلك القرار، لديك العديد من الحلول الوسط وآليات الحفاظ على نظام غذائي متوازن، عِش واستمتع بما أحله الله تعالى لك!