يُصِرُّ البعضُ على ضرورة نحت تماثيلَ لمن يدّعون أنهم زعماء، ونصبها في ساحات المدن، تخليدا لهم، وتذكيرا بإنجازاتهم!! وهي قد تكلّف أموالًا طائلة تكفي لِسَدّ باب الجوع والبطالة، رغم أن مصيرها، أن تظلّ رابضةً، مُهملة ً، لا تجذب انتباهًا ولا تشحن وجدانًا ولا يعبَأ بها المارة، لأنها –أي التماثيل– لا تُجسّد إلا بطولات وهميّة، مُركّبة، لا يمكنها أن تحرّك القلوب، ولا أن تهيّج أشواق الروح.
لأن الفروسية التي لا تثير نَقْعًا، ولا يصهل فيها فرَسٌ ولا يهتزّ على صهوتها فارسٌ، لا تستطيع أن تثير حماسة المتابعين ولا أن تعصر دمعة من عيون المعجبين: فالبطولة ليست ذكاءً في الدسائس السياسية، ولا فخامة ً في النّهْب الاجتماعي، ولا إبداعًا في التزوير، وهي ليست أيضا خفّةًّ في الاحتيال أو براعةً في الكيد والخيانة، كما أنها ليست إنجازَ رَقْمٍ قياسي في قوّة التحطيم، وسَحْق الخصوم.
إنما البطولةُ الحقّة هي بطولة النفس، والفروسيّةُ الحقّة، هي فروسية القلب، التي تُتَرجِمُها سَماحة ٌ في البذل، وديمومةٌ في الإنفاق، وحُسنٌ في الأخلاق، واِحسانٌ في التعامل ورقّةٌ في التواصل وصبْرٌ على الأذى وصدقٌ في القول وإخلاصٌ في العمل ونفْعٌ للغيْر.
وإن مجتمعنا، لفي جوع وعطش وفقر مُلحّ إلى هذا النوع السامي والنادر من البطولة والفروسية، حتى يستردّ عافيته، ويشتدّ صلبه، ويعوّض ما فاته، بعد أن أرهقته سنوات عجافٌ، خدّاعات، نشط فيها قُطّاعُ الطرق وعَرْبَد فيها اللصوص، وسَمِنَ فيها الانتهازيّون، وجاوز فيها الظالمون المَدَى، وبرز فيها الرُّويْبضة.
فكم من دَعِيٍّ قد رفع شعار الوطنية وادّعى نسَبًا بالنضال، وهو مورّط حدّ النخاع في العمالة والتسوّل لدى السفارات، وكم من مُستبدّ هتف بالحرية وللحرية، بينما ضحاياه تفيض بهم السجون، وكم من مترشّح لأعراس الانتخابات قد ملأ الساحات ضجيجا بشعارات مصقولة، عن الحقوق والكرامة والمساواة والحرية، ثم لما وضعت الانتخابات أوزارها، عَبَسَ وبَسَرَ، ثم أَدْبَرَ واسْتكْبَرَ، ثم راغ منها كما يروغ الثعلب، ومع ذلك -للأسف- ترى الناس معجبين بالانتهازيّين: لصوص المواقف والمواسم، ومبهورين ببطولات الغثاء، ونجوميّة الرّداءة، بالرغم مما تفرزه من صور مفزعة، قاتمة، تنحَطّ بالنفس الإنسانية إلى أسفل سافلين وتحول بينها وبين مقامات الكمال والخير والصلاح.
إذ يكفى المرءَ أن ينقل بصره بين تضاريس الشرق والغرب، ليقف على الشيوعية وهي في سُفوحها، تمارس البغْي والقمْع والإلحاد، وعلى الرأسمالية وهي في عُلَبها، تبطرها الأثَرَة والاستكبار، وعلى الصهيونية وهي في دهاليزها تهندس للدمار والاستيطان، وعلى الوُجوديّة، وهى في مرابضها، تمارس الرذيلة والشذوذ والعهر.
العالم اليوم، وقد تجرّع من الويلات والنكبات والحروب والإرهاب، ما أرهقه، وأحْنَى ظهره، وأظهر الفساد في برّه وبحره، وذلك بسبب تعظيمه وتبجيله وتَوْثينه لأصحاب بطولات الغرائز والنزوات، والاستكبار.
بينما تزدحم في تراثنا الحضاري الإسلامي-يوم كنا خير أمة- مواقفُ رائعةٌ لبطولات النفس المؤمنة، ما تزال تبهر العالم وتأخذ بالألباب، صوَرٌ فريدة من البطولات النفسيّة، سجّل فيها المسلم، مواطنًا كان أو حاكمًا، مثقفًا كان أو أمّيًّا، انتصارات باهرة في مواقف عديدة مختلفة: على الظلم والبغي والشحّ والأثَرَة والجُبْن، وترك بصمات رائعة في العدل والإيثار والعفو والتضحية والورع والزهد والصبر، لا يملك المرء إزاءها إلا إن يقرّ بفعالية الإيمان ومعجزة العقيدة في تفجير طاقات الخير وتزكية النفس.
ويكفي المتعاملين بأطروحة "النّسِيِّ" (وهو اختراعٌ جاهلي) في مجالَيْ حقوق الانسان والحريات، والذي يُحِلّونَهُ عامًا ويُحَرّمُونَه ُعامًا، فيمنحونه لزيْدٍ تارة، ويمنعونه عن عَمْرو تارة، يكفي أن نُحيلهم الى أرشيفنا الاسلامي الزاخر بالبطولات النفسية ليدركوا سَبْقنا الى انجاز وتحقيق كل ما زكّى النفوس وأصلح القلوب وفجّر طاقات الخير، وجفّف منابع الشرّ، ومنح البشرية، عافية وسلامة، ووقاية من شتى أوبئة الظلم وخرائط الافساد.
العالم اليوم، وقد تجرّع من الويلات والنكبات والحروب والإرهاب، ما أرهقه، وأحْنَى ظهره، وأظهر الفساد في برّه وبحره، وذلك بسبب تعظيمه وتبجيله وتَوْثينه لأصحاب بطولات الغرائز والنزوات، والاستكبار، اليوم يجب أن تُمنحَ فرصة التجربة لأصحاب النفوس الكبيرة، والقلوب المؤمنة، والأيادي المتوضئة، الذين تعرفهم البطولات النفسية، عسى أن ننقذ ما يمكن انقاذه ونرمّم ما يمكن ترميمه مما أفسده وعبث به من لا غيْرةَ لهم على وطن ولا همّةَ لهم في إصلاح.