شهدت العقود الأخيرة هجمة شرسة على الإنسان في مظهره المجتمعي، حيث أخرجت الحرية كمرادف للفردانية وأصبح يشار لكل انتماء على أنه اجتزاء من الحرية.

نحن في هذا المقال سنحاول البحث في هذه الجزئية، ونتساءل هل فعلا الانتماء لجماعة أو مؤسسة أو هيئة أو حزب أو فكرة أو وطن أو قبيلة. هو بالضرورة انتقاص من الحرية واجتزاء شطر كبير منها؟

كنا قد أشرنا في مقال سابق أن الحرية هي باختصار التزام يسبقه اختيار ويتبعه مسؤولية، واليوم لنرى هل هذا ممكن في الانتماءات أم هو أمر مستحيل!

لا يستطيع أحد الجزم بأن كل الانتماءات يحكمها طابع ايديولوجي ضيق ومغلق بصبغة دوغمائية مصمتة، فهذا يقودنا حتما إلى سؤال بلا جواب عن جدوى الاجتماع البشري من أصله؟

لذلك نحن نميل إلى أنه من الممكن أن يكون الانتماء اختيارا حرا واعيا مدروس المسؤولية ويستحق الالتزام.

فالذي يختار بين الاهتمام بالشأن العام وبين عدم الاكتراث، فيختار الاهتمام كدرجة أولى، ثم يختار من بين مجالات الاهتمام بالشأن العام العديدة والمتنوعة المجال الفكري أو السياسي مثلا، ثم يختار بعد ذلك في النشاط بالمجال السياسي بين العمل الحزبي وبين العمل المستقل فيختار العمل الحزبي لاعتبارات تخصه، ثم من بين كل الأحزاب الموجودة يختار ما يراه الأقرب لما يتناسب وفلسفته العامة في الحياة، ثم يقارن بين ما يمكن أن يحققه وبين ما يمكن أن يضحي به جراء الالتزام بلوائح الحزب وأبجدياته، فيختار مرة أخرى الالتزام، ليقرر في النهاية الانتماء.

فكيف يمكن أن نسمي كل هذه السلسلة من الاختيارات الحرة بأنها تناقض الحرية وتتنقص منها؟! لا يحدث هذا في الأحزاب السياسية فقط، بل يمكن تعميمه على شتى مجالات الحياة.

فالانتماء للمجتمعات البشرية في إطارها الواعي لا يُكلف الإنسان حريته كما يشاع، بل يهذب من نزعته الفردانية اللامتناهية التي يستثمر فيها من يحسنون تحويل الإنسان في اجتماعه إلى أفراد تشعر بالوحشة والتيه لتعوض عن ذلك بأمور أخرى تمنحهم أرباحا طائلة.

الحرية ليست فردانية لا انتماء فيها، وتحول الإنسان من رحابة الانتماء إلى ضيق الانزواء، بل الحرية قدرة واعية على اختيار مستقل ومسؤول تنتشل الإنسان من الفردانية والانزواء إلى الاجتماع البشري للإبداع والانتماء.

في عرف بعض المنتسبين للفكر، وهو منهم براء أن أي انتماء وانتظام هو نتيجة طبيعية لأيديولوجيا ما، ثم يتم القفز من الأيديولوجيا بشكلها العام إلى الأيديولوجيا المغلقة التي تحول أتباعها إلى دوغما أو قطعان! وهو إلزام غير ملزم.

وهنا يطرح سؤال من تلقاء نفسه: هل هذا الأمر متعلق بالانتماء الواعي؟ أم الاحتشاد غير الواعي؟ فإن قلنا أن الانتماء الواعي مآله حتما إلى الأيديولوجيا المغلقة ومن ثم دوغمائية مصمتة، فهذا كلام متناقض من أصله، إذ لا يمكن اجتماع الوعي والدوغمائية في حال واحد.

وإن قلنا أن الأمر فقط متعلق بالحشود غير الواعية التي هي في أصلها دوغمائية، فهذا صحيح، وهو جزء لا يكاد يخلو منه انتماء بما في ذلك الكثير من الحشود التي تنتمي إلى فكرة اللا إنتماء من غير وعي، فهي أيضا دوغما وتحكمها أعراف غير منطوقة ولا مكتوبة، لكن الجميع عليه أن يلتزم بها، وإلا سيطرد من جماعة اللا انتماء إلى انتماء من نوع ما.

الحرية ليست فردانية لا انتماء فيها، فتحول الإنسان من رحابة الانتماء إلى ضيق الانزواء، الحرية قدرة واعية على اختيار مستقل ومسؤول تنتشل الإنسان من الفردانية والانزواء إلى الاجتماع البشري للإبداع والانتماء.