السواد الأعظم من الناس لا يعرف السعادة ولا يمارسها، وإن تمتع بها فلِلحظات معدودة، ويظن معظمهم أنهم سيُحققونها من خلال تكديس الثروة، والارتفاع في البنيان وتكويم الأحجار، أو في التمتع بالملذات الحسية بدون حدود؛ فيأكلون إلى ما فوق الشبع، ويشربون حتى الإنفجار، ويسْفحون ماء الحياة إلى حد النضوب والنفاذ، ولكنهم يكتشفون أن لا بالثروة، ولا بالملذات الحسية، ولا بالجاه، وصلوا إلى نعيم السعادة، وشاطئ الأمن، وحديقة النفس المطمئنة.

لم يشموا ريح الجنة بعد، ولا عرفوا هذا العالم الجديد الذي يصل إليه القليلون، ويدخله النادرون، ويتمتع به الخواص. 

أين السعادة الدائمة التي لا تنفد والكاملة التي لا تنحصر؟

هذا هو السؤال الذي أقض مضاجع الفلاسفة والمفكرين، علماء النفس والمربين، وهو السؤال الذي افتتح به الفيلسوف الهولندي سبينوزا في القرن السابع عشر كتابه القيم "رسالة في تحسين الفكر".

(تعتبر كتابات اسبينوزا إحدى أهم المحطات العقلية في مسار إنجازات العقل الإنساني، ولم يكتب في حياته القصيرة سوى أربعة كتب، وبكل أسف لم أعثر على ترجمة كاملة لأعماله باللغة العربية، والفقرة التي أستشهد بها هي من الأصل الألماني Abhandlung ueber die Verbesserung des Verstandes . راجع موسوعة أعماله الكاملة التي نشرتها Felix Meiner Verlag ص: 4.)

لقد حاولوا تعاطى المخدرات والمسكرات الولوج إلى هذا العالم، فضاعوا وضلوا الطريق، فلم يصلوا إلى نعيم السعادة الحقيقي الكامل والدائم، المستمر والنامي، ولا رجعوا إلى دنياهم العادية الأولى، بل أصبحوا هباءاً منثوراً، ووجدوا سراباً خادعاً، وتحولوا إلى حطام فوق الحطام.

يتمنى الإنسان –لو كان بالإمكان- أن يحقق السعادة بتناول قرص دواء، أو يصل إلى حالة (النفس المطمئنة) بجرعة شراب، أو أن تشع منه (الحكمة) بدهنه مرهم، أو أن يتسم بـ(العدل) بأكسجن على أنفه، أو أن يتحرر من (الغضب) باستنشاق الرذاذ التنفسي الذي يعالج به الربو الصدري، ولكن هيهات هيهات لما يوعدون!!!

إن فيض السعادة هو نور داخلي قبل كل شيء، وتحصيل ذاتي، ومعاناة خاصة، وعتبة يصل إليها من مارس الكد، وقاسى التعب، وذاق لوعة البحث، وصعد الجهد وبدون حدود في صقل مرآة روحه الداخلية لتتلقى الإشعاع الكوني العظيم.

كان آينشتاين يقول: إن اكتشاف الحقيقة لمرة واحدة لا تكفي، على العكس يجب المحافظة عليها وتجديدها باستمرار، إنها تشبه تمثال الرخام الذي يقف في الصحراء وهو في حالة خطر دائم من أن يدفن في الرمال، الأيدي الفعالة والنشيطة وحدها التي لا تعرف التعب والملل والتي تنظفه باستمرار هي التي تحافظ عليه يتألق تحت ضوء الشمس [1]، وكذلك هي رحلة البحث عن أعظم كنز في هذا الوجود، غارق في عمق بحر مجهول.

عند منتصف الليل في إحدى مناوبَاتي المرهقة، أثناء فترة إقامتي الطويلة فيما كان يعرف سابقاً بألمانيا الغربية، وضعت رأسي لأتنفس الصعداء ولو للحظات، إلا أن جرس التلفون لم يمهلني، حيث يبدأ موكب السكارى وحوادثهم بالتدفق في مثل هذا الوقت، أي في نهاية حفلة (الكيف) التي تتحول في خاتمة المطاف إلى مشاجرات وجروح علينا معالجتها، هذه المرة كان النداء مستعجلاً وملحاً وخطراً، فانطلقت كالعاصفة لا ألوي على شيء، أكاد لا أبصر طريقي أمامي، وهناك في قاعة الإسعاف وقع نظري على فتاة في مقتبل العمر، قد غرقت في دمائها، مذبوحة من الوريد إلى الوريد، في الرمق الأخيرة.

بدأنا ونحن بالكاد نلتقط أنفاسنا، في محاولة سريعة لإنقاذ حياة هذه الصبية، أعصابنا متوترة، ووجوهنا يعلوها الإرهاق وسهر الليالي، المريضة تغتسل في دمها ونحن نستحم في عرقنا!! هكذا هي حياة الجراحين –الجنود المجهولون- الذين ينامون على عملية، ويستيقظون على اختلاط، صديقهم الليل والمشرط، وخَليلهم الدم والقيح، وأنيْسهم خراج يشق، وورم يستأصل، نزهَاتهم في قاعات العمليات، وسَميرهم المرضى وأروقة المستشفيات، قد شابوا قبل المشيب، واستُهلكوا قبل الآوان، قد واصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، والويل لهم إن فقدوا مريضاً!!

عندما أدخلت يدي المغطى بالقفاز المعقم في عمق العنق تنفست الصعداء، حيث أدركت أن الشرايين السباتية سليمة، وشيئاً فشيئاً استطعنا السيطرة على النزيف، وإنقاذ حياة المريضة.

(الشرايين السباتية وتعرف باللغة الانكليزية carotid artery وهي شريانين ثخينين على جانبي العنق في العمق، يعتبران مواسير الدم الرئيسية التي تغذي الدماغ، يضاف إليهما شريانين آخرين من الخلف يصعدان لتروية الأقسام الخلفية من الدماغ، فيكون المجموع أربعة، تلتقي جميعها لتشكل حلقة دموية شريانية سباعية الأطراف في قاعدة الجمجمة، وهي المعروفة بمسبغ ويليس الشرياني، وبذا يمكن إمداد الدم لأي منطقة مهددة بانقطاع الدم عنها. هذا الكمبيوتر الرهيب داخل جمَجمتنا يحترق بانقطاع الأكسجين عنه لمدة خمس دقائق فقط، ويعطب بشكل نهائي لا عودة فيها حتى لو استمر القلب وبقية أعضاء البدن الرئيسية في العمل، وهو المعروف طبياً بموت الدماغ.)

 قلت في نفسي بعد انتهاء العملية الجراحية: كانت ليلة مرعبة بحق، ولكن تفاؤلي كان مبكراً لأنه كان علي أن أتابع الرحلة مع هذه الواقعة وذيولها حتى شعاع الفجر الأول.

 رن التلفون مع ساعة السحر مرة أخرى، هذه المرة صوت ذكوري أجش خافت يطلب معلومات عن حالة المريضة التي أدخلت المستشفى، ويرفض الإفصاح عن هويته، كان جوابنا: أننا لا نعطي معلومات عن طريق التلفون ولمَجهولين. 

تفاءلت بالنوم بدون جدوى، هذه المرة كان البوليس يطلب أخذ عينة من دم (جثة)، وهو نظام معمول به في الغرب لكثرة الشاربين للخمور الذين يقودون السيارات ويتسببون في حوادث الطرقات، نزلنا إلى المستودع البارد حيث وقع نظري على شاب طويل راقد جثة لا حراك بها! عندها اكتملت صورة تلك الليلة المرعبة، كان هذا الشاب هو الذي ذبح الفتاة، وعندما طارده البوليس أطلق النار على نفسه منتحراً، وكان هو صاحب الصوت المجهول الذي كان يتصل بالتلفون يسأل عن صحة الفتاة المذبوحة.

هذه القصة التي قفزت لذاكرتي الآن ونظائرها كثير من يوميات الجراحين، وهذه قد تحدث في ألمانيا وغيرها، ولكنها (مشعر) ينبئ عن فقدان مبرر الاستمرار في الحياة، وتقديم الاستقالة منها.

هذه الحياة الرائعة ونورها البهيج ومتعتها بدون حدود، هذا الوجود الذي أكرمنا الله به؛ كيف يمكن لمشاعر الإنسان فيه أن تصل إلى هذا القدر من الكآبة والإحباط واليأس، إلى درجة إنهاء الحياة ذاتها!!   

كنت في ألمانيا أتعجب من التناقض الرهيب بين الرفاهية والوجوه الكالحة، بين السيارات الفخمة والقسمات الجامدة، بين الفرش الوثير وعبوس الوجه، بين ورد ذو منظر بهيج ولكن بدون رائحة، بين بشر يعملون بدون ابتسامة عذبة وضحكة على السجية، بين نظام دقيق ونفوس بائسة.

كان ظهر يوم الجمعة والمشير إلى قرب انتهاء دوام الأسبوع رائعاً، حيث يتجرعون الأنواع المنوعة من الخمور فتحمر وجوههم وأعناقهم، ويلين مزاجهم، وتنْفرد أسَاريرهم ووجوههم، وتبدأ الملامح الإنسانية المخبأة في الأعماق بالظهور والطفو إلى عالم الحياة والأنس. 

أما يوم الأحد وخاصة بعد الظهر فكان أسوداً كئيباً مقيتاً، حتى عرف بمتلازمة [2] يوم الأحد، كنت أتعجب من هذا ولا أعرف سره، وكنت أتساءل: إذا كانوا يبدعون في الحياة ويحبون الدقة في العمل، والانتظام في الوقت، فما هو الإشكال طالما سوف يستقبلون يوم الاثنين يوم العمل الذي هو مصدر رزقهم واقتصادهم، ووجودهم ورفاهيتهم!!

كان السر أعمق، واللغز أكبر.....

كما أن الباَكتيريا هي الوحدة العضوية لنقل المرض كذلك، فإن الفكرة هي الوحدة النفسية لنقل المرض الروحي، إنني أعترف أنني بدأت أصاب بالعدوى في سنوات مكوثي الأخيرة في ألمانيا، فكنت أشعر برتابة وثقل وبؤس نهاية يوم الأحد، هذا الشعور لم أتخلص منه إلا حين مغادرتي البيئة الألمانية.

إن متلازمة يوم الأحد لم تكن في الواقع لأنهم سوف يستقبلون يوم الاثنين، يوم العمل والواجب الثقيل.. لا كان الموضوع أعمق من هذا!! 

إن التوقف عن العمل هو بكلمة ثابتة توقف النفس عن الانشغال الخارجي والتعامل معه، للرجوع إلى الذات. 

إن يوم العطلة هو يوم مواجهة النفس، هو الانكفاء الداخلي والاعتكاف، هو اكتشاف عالم الذات، وكان الإنسان الألماني يشعر بالألم العظيم حين يواجه عالم الذات الفقير الخاوي الهزيل، ذلك العالم الذي يشبه الشجرة المفرغة من الداخل، كان يستشعر أن اللهو الخارجي للنفس قد توقف. 

هذه المواجهة المدمرة للذات كانت محطة العذاب ونقطة البؤس والجحيم. وقد انتبه إلى هذه الأزمة الروحية قديماً الفيلسوف الفرنسي (باسكال) فكتب يقول في كتابه (الخواطر): "كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة، وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن الاعتكاف، ومن هنا جاء ولع الناس بالضوضاء والجلبة، ومن هنا كان السجن عذاباً مريعاً ولذة الوحدة أمراً يستعصي فهمه، في الإنسان غريزة خفية تحمله على اللهو والانشغال في الخارج، مصدرها شعور مرير ببؤسه المتصل" [3].

 وعلماء النفس يعرفون هذه الظاهرة جيداً، ويشعرون أنها تعبير خطير عن مرض حضاري يهدد بنيتهم الأساسية، إنها بدء تيبس مفاصل الحضارة، وتصلب شرايينها وتخشبها، بكلمة أخرى بداية النهاية، وأول المطر، وفاتحة الطوفان، وانطلاق تفاعل الانحطاط. 

هذا ما انتبه إليه فلاسفة كثيرون ومؤرخون وسياسيون سطروا لهذه الظاهرة كما هو الحال مع الفيلسوف الألماني (أوسفالد اشبنجلر) الذي وضع سفره الضخم (أفول الغرب). (كتاب أوسفالد اشبنجلر-سقوط الحضارة- ترجمة أحمد الشيباني، راجع الجزء الأول في تفسيره لظاهرة الاستعمار الغربي- الفقرة (13) ص: (97): أقول إن الاستعمار هو الرمز المميز لاحتِضار المدنية الغربية وموتها. في هذا الشكل الظاهري للاستعمار قد بت الآن بمصير الغرب بتاً لاعودة عنه أو تعديل).

 والمؤرخ الأمريكي (باول كينيدي) في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) يتنبأ في هذا الكتاب المشهور بنهاية أمريكا، وتقوم تحليلاته على دراسة كل القوى العظمى التي برزت خلال القرون الخمسة الفارطة ومنها القوة العثمانية. وصدر له من قريب كتاب هام عن (التحضير للقرن الواحد والعشرون).

أو السياسي الفرنسي (جاك أتالي) في كتابه (آفاق المستقبل) وشهد شاهد من أهلها. 

جاك أتالي يعتبر من أقرب السياسيين ذوي الأدمغة النابهة الذين يستشيرهم الرئيس الفرنسي الحالي ميتران، وكتابه آفاق المستقبل مثير جداً، ويتنبأ فيه بانحسار قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وبروز قوى العرق الأصفر أي دول الشرق الأقصى وخاصة اليابان. 

إذا كانت الكائنات ومنها الإنسان قد اختزلت في الجينات، فإن الكون أيضاً قد أختزل في النفس البشرية، وأشار إلى هذه الفكرة الفيلسوف الصوفي الغزالي قديما في كتابه إحياء علوم الدين [4]، وبذا وضع القرآن يده على مفتاح تغيير العالم من خلال تغيير ما بالنفوس (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [سورة الرعد الآية: 11] الآية (إن الله لا يغير ما بقوم) موجودة في مكانين فقط في القرآن الكريم الأولى في سورة الرعد وهي الآية التي ذكرتها والآية الثانية موجودة في سورة الأنفال رقم الآية (53).

هذا الحقل هو الذي يجب أن يتم فيه البحث والسبر والحفر، لأن كنز السعادة مدفون داخِله، مخبأ في أعماقه، إن الرحلة باتجاه القلب السليم والنفس المطمئنة تبدأ من هنا، إن السعادة هي حالة ووضع للنفس الإنسانية عندما تصل إلى مرحلة النفس المطمئنة، كما أنها نشاط القلب الذي لا يعاني من العلل وهو ما وصف القرآن به إبراهيم (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الصافات الآية: 84].

الرحلة الإبراهيمية من القلب السقيم إلى القلب السليم هي رحلة الخلاص، كي يصبح الإنسان مرشحاً لدخول الجنة قبل دخولها، فهناك جنة خاصة في الأرض يشعر بها الصالحون قبل أن يدخلوا جنة الخلد، وهي من المبشرات على الاقتراب من نهاية الرحلة. 

هذه الحالة النفسية، هذا الهدوء والتجلي الروحي، هذا الفيض من السعادة والحبور، أشار إليه كل من ولج هذا العالم وكان شعورهم غريباً وصفوه أنها لحظات كانت تأتي في الأول لفترة قصيرة وبشكل متباعد، فيشعروا أنهم دخلوا عالما آخر يفيض بالسعادة سرعان ما ينحسر عنهم، ثم تقاربت الفترات وازدادت مدتها حتى دخلوا هذا العالم بالكامل.

إذا كان إنذار المرض العضوي الرئيسي هو الألم، فإن ألم المرض النفسي إثنان هما الخوف والحزن، وهما المرضان اللذان يعاني منهما معظم الناس، ويشكلان التحدي والعقبة التي على الإنسان اختراقها وتجَازوها، لذا انصب اهتمام القرآن في المعالجة النفسية بشكل رئيسي على تحرير الإنسان من هاتين العقدتين (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)[سورة فصلت الآية: 30] من خلال النظافة الأخلاقية والتطهير الروحي.

الخوف مما سيأتي، والحزن مما مضى وانقضى، وليس هناك من شعور عميق وهام مثل شعور الخوف أو الحزن، وحتى تمضي النفس في مرحلة الصعود الأخلاقي فإنها تنتقل عبر محطات تتزود فيها بالطاقة الروحية لتصعد إلى مرحلة أكثر تقدماً، فهي تصعد من مرحلة النفس الأمارة بالسوء، وهي تلك المرحلة المشوشة والفوضوية التي تنفعل فيها للوسط المحيط بها حيث تتعطل إرادة البناء الأخلاقية، فإذا بدأت في رحلة البناء من خلال عملية المراجعة والمحاسبة والنقد الذاتي، تبدأ في الدخول في مرحلة النفس اللوامة، فإذا اكتملت هذه المرحلة أصبحت مكاناً كريماً يستحق أن يقسم الله بها، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[سورة القيامة الآية: 1-2]. 

وعلى أرضية هذه المرحلة يمكن الانطلاق إلى المرحلة الثالثة مثل إرسال الصواريخ والأقمار الصناعية حيث تحمل كل مرحلة المرحلة التي بعدها، وتتكلل رحلة الصعود لاختراق جاذبية الشهوات والشبهات، عندما تصل النفس الإنسانية إلى مرحلة النفس المطمئنة، وبها تكون النفس قد اغتسلت من الخطايا تماماً وتحررت من الأمراض النفسية، عندها يبدأ الشعور بالأمن الذي هو مقابل الخوف (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[سورة الأنعام الآية: 82]، ويبدأ الشعور بالسعادة التي هي مقابل الحزن (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[سورة فاطر الآية: 34].

 وإذا أردنا ربط هذه الأفكار أي المراحل الثلاث ما بين النفس الأمارة بالسوء عبر النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة، فإنها تشكل ثلاث حلقات مترابطة متداخلة في رحلة صعودية، مع قابلية للنكس إلى الخلف عند كسل طاقة التطهير والتسامي الأخلاقية، ومع نظام الحلقات الثلاث هذه هناك ستة من الملاحظات سوف نسجلها:

  • الأولى: علينا أن نلاحظ أن النفس الإنسانية في حالة ديناميكية لا تستقر مثل موج البحر، وفي اللحظة الواحدة قد تنتكس النفس وتمرض وتهبط بل وتتدحرج إلى أسفل، وهذا يحتاج بالتالي إلى عملية تطهير لا تتوقف وهو معروف في العضوية، حيث أن حالة الصحة التي يتمتع بها الجسد، هي ذلك التوازن بين الهجوم الجرثومي الدائم ودفاع الجهاز المناعي الذي لا يكف عن الدفاع، تماماً مثل عملية الإستقلاب في الجسم، ففي اللحظة الواحدة تنهدم ملايين الخلايا وتنشأ الملايين، تتكسر حلقات من التفاعلات الكيمياوية لتقوم محلها حلقات جديدة وهكذا، بل إن الجسم البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة، وإذا كان الجسم من خلال خلاياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة، وإذا كان الجسم من خلال خلاياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري هو على نفس الشاكلة، فمع شروق شمس كل يوم تدفع الأرحام 270 ألف إنسان جديد إلى الحياة، ومع غروب كل يوم تبتلع القبور 41 ألف إنسان، وتبقى الزيادة في حدود 130 ألف إنسان شاهدة على تفوق الحياة على الموت لأنها من الحي الذي لا يموت.

(راجع كتاب المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة-نشر سلسلة عالم المعرفة الكويتية-تأليف د.رمزي زكي-ص5: يتزايد سكان العالم بمعدلات سريعة، حيث يولد يومياً ما يقرب من 270 ألف طفل رضيع، في حين تبلغ الوفيات يومياً حوالي 140 ألف أي بزيادة صافية مقدارها 130 ألف طفل رضيع في اليوم الواحد. ومعنى هذا ببساطة شديدة، أن سكان العالم يتزايدون بمقدار ثلاثة أطفال في كل ثانيتين، بحوالي 90 طفل في كل دقيقة. وتأسيساً على ذلك يعلو صراخ ما يقرب من مليون طفل جديد كل أسبوع طلباً للغذاء وفي تقديرات أخرى كل خمسة أيام.)

  • الثانية: وكما أن هبوط الإنسان لا حد له، كذلك فإن صعوده باتجاه رحلة التكامل النفسي لا سقف لها.
  • الثالثة: إن الهبوط لا يحتاج لطاقة، في حين أن الصعود يحتاج لطاقة، وهذا يذكرنا بقانون آينشتاين الذي ذكرناه في مطلع المقالة، وهو ضمن المصطلح القرآني الجهاد، أي بذل الجهد المكافئ لرفع وتصعيد حالة النفس باتجاه تحقيق الذات، وتنشيط المثل الأعلى، وضبط الغرائز في الاتجاه الصحيح كما تضبط أي طاقة.
  • الرابعة: إذا كانت النفس المطمئنة قد استكملت شروطها لدخول عالم السعادة والجنة كما يحدث في المتقدمين لملئ أي وظيفة شاغرة، فإن استكمال الشروط لا يعني دخول الجنة بصورة حتمية بل لابد لها من رحمة الله تعالى، وهذا يحمل المعنى الضمني من الأخلاقية الجديدة في التواضع.
  • الخامسة: إن عملية التطهير هذه لها وسائلها التي يمثل الصوم إحدى أهم الوسائل في الاعتكاف الداخلي وفي المراجعة الذاتية وفي تنمية الإرادة، وفي السيطرة على الغرائز وفي ترويض الشهوة وقمع الغضب والأخيرتين تعتبران من اشد الغرائز استحكاماً بالنفس الإنسانية.
  • السادسة: إن الصوم يمثل هذه البانوراما في شحذ المثل الأعلى، وكما يقول عالم النفس (هادفيلد): إن المثل الأعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق الإنسان لأنه وحده الذي يستطيع تنبيه الإرادة، وتنظيم جميع الغرائز في كل واحد متناغم متوافق، وبدونه يصبح الإنسان تحت سلطان التأثيرات المشوشة التي تحدثها الغرائز المتصارعة، وبه تلتحم الشخصية بعضها مع بعض وتتماسك متجهة إلى غرض واحد مشترك، إن المثل الأعلى هو الذي يحدث بلوغه الاكتمال وتحقيق الذات[5].