لم يتجاوز عمره العشرين سنة، عندما تعرضت قريته لحمم القصف الذي لم يفرق بين صغير وكبير، فهامت الناس على وجهها في عتمة الشتاء القاسي، لا يعرفون مكانا يستقرون فيه، ولا مأوى يقيهم من البرد القارس.

كان تائها مع التائهين، يحمل ما يحملون من الألم والقهر، الذي لم يسمح حتى للذكريات الجميلة بالتسلل لذاكرته، فلم يكن في ذهنه المشتت سوى فكرة واحدة، أين سينتهي به السير؟ ومتى سيرتاح جسمه المنهك، وكيف ستحصل عظامه على الدفء الذي افتقده نتيجة البعد عن قريته، وبسبب الثلوج التي تتساقط، تلك الثلوج التي كانت تضفي على قريته لونا أبيض فيخرج الناس مبتهجين بها، هي ذاتها اليوم تزيد المعاناة والبؤس!

يجلس محمد على قارعة الطريق يحمل جبلا من الهم والحزن، ومما يضاعف هذا الإحساس مسؤوليته عن عائلته التي وجدت نفسها مرمية على قارعة الطريق، فيجد حرارة الدمع على وجنتيه تارة، وبالكاد يشعر بارتعاش يديه من شدة البرد تارة، ولكن إحساسه بالعجز تجاه أسرته كان يفوق كل احساس، ويعطل كل تفكير.

وبعد أيام من التنقل هنا وهناك يحصل على خيمة، ومن شدة الفرحة ينسى بيته الواسع، وفراشه الوثير، ودون أي مقاومة يخلد لنوم عميق، فلا يشعر إلا على نداء أمه: محمد، محمد، انهض واجلب لنا ما نأكله، إخوتك يتضورون جوعا.

يتحامل على جسده المنهك، ويخرج فيرى الخيام التي تلاصقت وامتدت على السفح فبدت كبحر متلاطم بلا نهاية، وتحوي كل خيمة قصة وألف غصة لأناس عانوا معاناته، وفقدوا الكثير حتى وصلوا، فمنهم من فقد أخاً، أباً، أماً، بيتاً، سكينة..

يوما بعد يوم، والهموم تزداد كتلك الغيوم السوداء التي تغطي وجه السماء وتحجب الشمس التي يخيل أنها لن تعود، كأنها تضامنت مع الحق الذي بات شبه مفقود في حياة أولئك البائسين!

ماذا عساه يفعل في بلد غريبة وبين خيام تحمل أرقاما؟ 

 فيغيب شعوره بإنسانيته ليلتصق به رقم.

رقم الخيمة يلازمه في الحصول على الخبز، ووجبة الطعام، والإحصاء، وفي كل حركاته وسكناته! رقم جامد كالصقيع الذي غطى وجه الأرض، وعمّ تلك الخيام المترامية. 

لم يعد يسمع اسمه كما يسمع رقم خيمته، حتى أنه بات يجيب لمجرد نداء الرقم، أما اسمه فبات مع بيته الذي فقده، وذكرياته التي قلّما تخطر على باله في غمرة الوقوف على الدور لتلقي المساعدات! 

ومع حلول الربيع ودفء الشمس شيئا فشيئا، يتفقد ذكرياته، يتفقد ذاته، يتفقد اسمه!

يحاول جاهدا التخلص من ذلك الرقم الذي التصق به، ليتحسس اسمه، وكيانه، ويدرك أنه مازال موجودا، إنه إنسان، وليس برقم.

في الصباح ينهض كما تلك الأزهار على السفح الذي حطت عليه الخيام، ولكن أين يتوجه؟ وماذا بمقدوره أن يفعل؟ وهل بمقدوره مغادرة تلك الخيمة والتخلص من ذلك الرقم العنيد؟ 

يعود إلى قريته المدمرة، المشبعة بالدماء التي سفحت بلا رحمة ففاحت رائحتها بدلا من رائحة أزهار الربيع وتلونت بلون تلك الدماء، تحت تلك البيوت دفن جيرانه، وعلى تلك الطرقات توقفت حركة الحياة منذ فترة، ومن بين ركام المدارس يسمع أنّات الكتب، وصرير الأقلام، ولكن لا يرى الأطفال يضجون في باحتها، ولا يسمع هتاف المعلمين في الصفوف!

 كل شيء قد توقف! 

يواجه بعض أهالي قريته الذين باتوا كأنهم قد أفاقوا من قبورهم لشدة القهر الحزن الذي أصابهم.

يقرر محمد العودة إلى قريته لأنه استعاد فيها أهم ما فقد، إنسانيته، واسمه!

لن يعود إلى تلك الخيمة ذات الرقم الجامد الذي التصق به وكأنه بذلك قد انتصر على كل مصاعب الحياة. 

في عالم يعج بالفوضى والظلم، وفي عالم غابت عنه شمس الحق طويلا، وفي عالم رقمي، لم يجد محمد أقسى من فقده لإنسانيته، ولم يجد أشد من أن يكون رقما في طابور الحياة، يشعر الآن أنه انتصر في أولى معارك التغيير واسترداد الحرية والكرامة، بتحرره من رقم الخيمة تلك.