لم تستند إحالة ما يحدث في الشام إلى "القوى الدولية" بإطلاقٍ إلى مجرد الغفلة المطلقة عن نشوء "قوى اجتماعية" جديدة، ولا لعدم تقدير إمكاناتها المحتملة في التأثير على أرض الواقع، إنما قامت أساسًا على ذهولٍ مطلقٍ عن مجرد "وجود طموح" لدى تلك القوى الاجتماعية للتغيير، فضلًا عن الاعتراف بأحقيتها، ذلك أنه وفي تصور الكثيرين أن انتفاضة الشعوب حينها لم تكن إلا مؤامرة!
هذا الذهول التام عن مجريات التحول الفكري الاجتماعي الذي لم يكن فقط وليد أكثر من عِقدٍ من الاعتمال والتدافع، بل يعود إلى أكثر من نصف قرنٍ من الحكم المطلق، التدافع الذي عرف أشكالًا عدةً، أهمها: العنف المطلق للمنظومة على شعب أعزل، تهجير نصف الشعب إلى كل دول العالم وخاصة دول الجوار.. وغيرها كثير، هذا طبعا كتراكم يضاف إلى الشرارة الأولى المتمثلة في هبة الشعب للتغيير مدفوعا بأهم دافعين: الاستبداد المطلق على الشعب برمته، والوحشية المطلقة على المعتقلين والمساجين.
ذلك ما يجعل من الحالة السورية أقرب لأن تكون مطلقة الخصوصية ضمن مسار الربيع العربي، وذلك في مواجهة نظام جمع كل الموبقات على وجه الأرض: من عمالة خفية بزعم المقاومة وصناعة المخدرات والمتاجرة بها، على أن المعضلة الأخطر في كل ذلك هو الإجماع الذي حظي به ليس من القوى الدولية المحيطة به فحسب، بعضها علنا وبعضها خفية، بل إن قسما من الوعي العام أبى الانحياز ضد المنظومة رغم انتهائها وانكشافها من جهتين: جهة أنانية الهارب الذي خدع الجميع قبل هروبه وترك أزلامه تحت رحمة الشعب، وانكشاف الفظائع الخفية التي كان يمارسها في السجون. 


فما جعل من القضية الفلسطينية أهم من القضية السورية هو خفاء حجم الظلم الذي تعرض له السوريون بفعل أمرين: ماكينة التضليل الإعلامي الهائلة التي اشتغلت لصالح الأسرة الحاكمة، وكذا آلية إسكات المعارضين حتى وهم في أقاصي الدنيا على نهج الوازرة التي تزر إلى الأهل والمحيط في حال التصريح، فتوارت القضية السورية من الضمير العربي والإسلامي، فضلا عن القضية الحجازية اللتان تشكلان مع القضية الفلسطينية مثلث الإطباق على قلب العالم الإسلامي، بما هي مواطن المرابط الثلاث للنظام الدولي، إذ وبهذا الفهم النسقي يكون التنكر للقضية السورية -أو التنكر لأية قضية من القضايا الثلاث- ضربا من الانحياز لغير صالح الأمة العام.


وعليه فإن إسناد الحدث التاريخي إلى الفاعل الدولي لوحده هو غفلة عن كل العوامل التي كان بالضرورة أن تفرز طبيعة جديدة للفاعل الاجتماعي المحلي، هذا الفاعل الذي كان مسحوقا تحت رحمة التفاهمات التاريخية للدول الكبرى، والذي حمل معه أثقال الماضي الكَل والمخلد؛ فكان كل هذا الضيم المتراكب في مستوياته والمتدرج في أزمنته عاملا على إخراج إنسان جديد، هو بالذات الذي حرر المدينة تلو الأخرى وصولا لتحرير دمشق، مستغلا الظرف الدولي.
فما يفعله الغرب اليوم من تقربه من الحكام الجدد الحاليين ليس إلا رضوخا للإرادة الشعبية التي هي في جوهرها فاعل تاريخي جديد أرغم القوى الدولية رغم سطوتها أن تجلس إليه، وتتعامل معه، خاصة في ظل خصوصية سورية أخرى، هي خصوصية أن المرابط لا تنطوي على جسم يمكن تجديده، لكونه منظومة عائلية في المربطين الأقصيين، وأن اندحارهما لن يبقي من بعدهما إلا فلولا يسهل الإجهاز عليها، فلا شك أن ما حصل يقع تحت الرعاية الدولية الرفيعة، لكن ضمن ظرف انشغاله، فضلا عن استسلامه أخيرا لإرادة الشعب التي قاومها وتوحد في الوقوف ضدها لأكثر من عقد.
فتحرر سوريا من ربقة الأسد تفتح أفقا تاريخيا جديدا مفاده أن المجتمع الأهلي أصبحا لأول مرة، كما فعل الطوفان ذلك أيضا، وجها لوجه مع القوى الدولية ستحاوره بالسلم تارة وبالحرب أخرى، علما أن وضع الهيئة ضمن لائحة الجماعات المشبوهة ولكونها تدير المرحلة الحالية، إنما هو وضع لكامل الثورة في ذات اللائحة، لكنه في الأخير مكسب لا يمكن الارتداد عليه، وما سيزيد من رسوخ المكسب وتمتين أواصره هو التخلي عن "الواقعية المطلقة" التي لم تنتبه للطموح التاريخي، لا عند ميلاده (عدم إدراك معنى أن يصل قطار الربيع إلى سوريا. 15.03.2011) ولا عندما صار واقعا (عدم فهم معنى أن تتحرر سوريا. 08/12/2024)، فما يفهمه المتوجسون من التغيير، لم يتخلص من النموذج الداعشي الذي لم يكن إلا واقعا فرضه الإستعلام الدولي، واستغل السذج من الناس لتنفيرهم من الحكم ذي المسحة الدينية وبناء صورة عن كل بديل ممكن ومتوقع.
فكما رحل الأسد كانت داعش قد رحلت من قبله، وتركت الساحة للفاعل الجديد، الذي لا يدعي أحد معرفة تفصيلاته حاليا ولا الحكم عليه مسبقا، إلا التأكيد أنه ميلاد لفاعل جديد، وأن ما سيحدد طبيعته إلا طريقة تصرفه الحالية والمقبلة، ويكفي لكي يكون جديدا أنه أصبح فاعلا بعد أن كان محبوسا عن الفعل لأزيد من نصف قرن، فضلا عن المخاضين الطويل والقصير، المخاضان اللذان سيجعلان تجربته بالتأكيد أكثر نضجا، وليس الحديث عن فاعل اجتماعي وسياسي وحيد، إنما الأمر متعلق بفئات مختلفة، الجامع بينها مرة أخرى جدتها. لا غير.