لما أراد الله تعالى لهذا الإسلام أن يظهر وينتشر، أراد لهذا الحدث أن يكون بارزاً وطاغياً، ومعجزاً في كل تفاصيله وأبعاده، ومنها البعد التاريخي والزمني، حيث كان لظهور الدعوة الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي الأول خصائص مميزة وفريدة خالفت السنن التاريخية والقوانين المجتمعية لظهور ونشوء الدول والأمم والحضارات.

فقد استطاع هذا المجتمع الناشئ والجديد أن يغير الزمان والمكان العالميين، فأسس دولة سريعة النشوء والتوسع، متسارعة في التمكن والتجذر، تحولت إلى إمبراطورية واسعة في زمن قياسي رهيب.

ولم يكن هذا الحدث مجرد تحول في الجغرافيا أو تغيير سياسي وعسكري لعالم العصور الوسطى، بل كان في نفس الوقت تحولاً جذرياً، فرض واقعاً جديداً تحكمه عقيدة خاصة – عقيدة الإسلام - وتحوطه نظم فكرية وقيم ومبادئ مرتبطة به وناتجة عنه – الحضارة الإسلامية - كما صهر مجموعة كبيرة من الأمم والثقافات في بوتقة واحدة وهي الأمة الإسلامية ذات الثقافة العربية المشتركة.

ولذا يقف كل قارئ للتاريخ في دهشة واضحة وشعور يتراوح بين الصدمة والإعجاب عندما يصل به المطاف إلى القرن السابع الميلادي، هذا القرن الذي استوقف كبار المؤرخين وشيوخهم من غير المسلمين، وأذهل علماء الاجتماع وفلاسفته من الغربيين وغيرهم، لعجز فلسفة التاريخ النظرية ونظريات علم الإنسان والاجتماع الوضعية عن تفسير مجريات ووقائع هذا القرن، وعن إعطاء إجابة مقنعة ومطمئنة عن السؤال الطارئ في مثل هذا الموقف: ما الذي حدث؟ ولماذا؟ وكيف!؟

ولا نجد أجمع وأدل وأبلغ من العبارات التي استهل بها المؤرخ الأمريكي لوثروب ستودارد كتابه (حاضر العالم الإسلامي)، لتصوير موقف ونظرة المؤرخين لمثل هذا الحدث، وذلك في قوله:

"كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دون في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض، ممزقاً ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمة مرت عليها الحقب والأجيال، ومغيراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراص الأركان .. هو عالم الإسلام".

ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون كلاماً شبيهاً بالأول في كتاب (حضارة العرب):

"ولا ريب أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيماً إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلفة من إمارات مستقلة وقبائل متقاتلة دائماً، فلما ظهر محمد ومضى على ظهوره قرن واحد كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى إسبانيا، وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المدن التي خفقت راية النبي فوقها".

وعن وحدة الثقافة والهوية التي صنعها الإسلام، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) :

"هذا الكتاب يتحدث عن العرب والحضارة العربية بالرغم من أن الكثيرين من بناتها كانوا لا ينتمون إلى الشعب الذي عرفه المؤرخ القديم هيرودوت باسم "عربيو"، بل كان منهم أيضاً فرس وهنود وسريان ومصريون وبربر وقوط غربيون ساهموا جميعاً في رسم معالم تلك الحضارة، بدليل أن كل الشعوب التي حكمها العرب اتحدت بفضل اللغة العربية والدين الإسلامي، وذابت بتأثير الشخصية العربية من ناحية، وتأثير الروح العربية من ناحية أخرى، في وحدة ثقافية ذات تماسك عظيم".

وتشكلت نتيجة لذلك الكينونة العربية المفتوحة التي وصفها وعبر عنها العالم الفلسطيني إسماعيل الفاروقي بــ"سيولة الكينونة العربية"، قاصداً الكينونة التي زودها الإسلام بالأساس الأخلاقي والمنحى العالمي.

وفي مقاربة ومقارنة رائعة جاد بها الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أضفى فيها على العرب صفة "أمة النخلتين"، وذلك في سرد تاريخي وأدبي لطيف ورفيع يعبر بأوضح وأجمل صورة عن هذا الحدث التاريخي الذي نقل العرب من حال إلى حال مختلفة تماماً، فمن أبيات قالها الشاعر مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني (ت. 208ه/832م) حينما يحتضر بأقصى الشرق، في أكناف جرجان، وقد رأى نخلة لم يكن في جرجان غيرها، فأنشد:

ألا يا نخلة بالسفح من أكناف جرجان .... ألا إني وإياك بجرجان غريبان

إلى الأبيات التي أنشدها في أقصى الغرب صقر قريش عبدالرحمن الداخل (113-172ه/731-788م) مؤسس الدولة الأموية بالأندلس عندما رأى نخلة وحيدة متغربة مثله في الأندلس:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة .... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى .... وطول افتراقي عن بني وعن أهلي

ويعلق الشنقيطي على هذه المقارنة قائلاً: "وما بين النخلتين الشرقية والغربية، نخلة جرجان ونخلة الأندلس، تشكلت هوية عربية مفتوحة، تلاقت بين جنبيها أقوام عديدة، واندرجت فيها أمم شتى، كان لكل منها إسهامه في الحضارة الإنسانية". 

وإننا إذ نصر على أنها حالة فريدة ومتميزة تاريخياً لا نظير ولا مثيل لها، فلا بد أن نتعرض للإجابة عن سؤال قد يتبادر إلى أذهان البعض ممن قد يقول بوجود النظير والمثيل التاريخي الذي يقبل المقارنة مع ظهور وتوسع المسلمين العرب.

 وهو توسع المغول المفاجئ والعظيم في عهد جنكيز خان وخلفائه، والذي حدث في مدة لا تتجاوز القرن أيضاً، وهو قياس مع الفارق الكبير، فقد مر المسلمون بثلاثة حروب أهلية كبرى أثناء توسعهم، هذا عدا عن العشرات من ثورات الخوارج والشيعة وغيرهم، وهي التي استنزفت الكثير من إمكانات دولة الخلافة البشرية والمادية، أعاقت مسيرة الفتح والتقدم.

 على العكس تماماً من حال إمبراطورية المغول التي لم تشهد تمرداً أو انقساماً داخلياً حتى تم واكتمل توسعها، فكان أن دب الصراع بين الخانات المحليين وأعلن كل منهم الاستقلال عن الخان الأعظم في مرحلة ما بعد أوج القوة وذروة التوسع.

ثم إن الغزاة المغول مجموعة من البدو المتوحشين والهمجيين، اتبعوا سياسة الإرهاب والأرض المحروقة في غزو الأراضي وإخضاع الشعوب والدول الأخرى، على العكس تماماً من الفاتحين المسلمين الذين حملوا عقيدة وقيماً وأخلاقاً ضمن إطار المشروع الحضاري والدعوة الجديدة التي تبنوها ودعوا إليها، وذلك حملهم عبأ التعامل مع أهالي الأراضي المفتوحة الذين أصبحوا رعايا الدولة الجديدة، فلم يكن مشروعهم يقتصر على الغزو والتدمير بل كان فتحاً وبناءً وتمكيناً.

ولذلك كانت نتائج كل منهما مختلفاً كلياً عن الآخر، حيث استقرت و تجذرت آثار الفتح الإسلامي في خريطته الجغرافية وفي قلوب وعقول ساكنيها، بينما اضمحل المغول وبادت ثقافتهم خارج حدود أرضهم الأصلية – منغوليا الحالية -، حيث انحل المغول و انصهروا في بنية المجتمعات المحلية وثقافاتهم، واعتنقوا أديانهم، والكثير منهم اعتنق الإسلام.

التحيز التاريخي تجاه هذا الحدث

تعددت التفسيرات وتنوعت مواقف المؤرخين والمدونيين من الفتوحات الإسلامية، واختلفت الأطروحات المقدمة لتفسير أسباب نجاح هذه الفتوحات والانتصارات. 

 ففي حين قدمت فئة منهم – وهم أقلية – تفسيرات موضوعية ومنطقية أخذت بعين الاعتبار الدافع المعنوي الموجود عند حملة الرسالة الإسلامية الأوائل من العرب، ونسبت انتصارتهم إلى الروح الإيمانية المشتعلة في أفئدتهم والحماسة الجهادية التي زرعتها فيهم العقيدة الإسلامية، كما ذكروا أن تفوقهم العسكري والسياسي رافقه تفوق أخلاقي وقيمي تمتع به عامة المسلمين في فجر الإسلام، وخصوا بالذكر القرآن الكريم ككتاب شكل الدستور الأول والأعلى لهذه الجماعة المحمدية الناشئة. ومنهم المؤرخين الذين ذكرناهم أعلاه –ستودارد ولوبون وهونكه-، وأيضاً المستشرق الألماني يوليوس فلهوزن.

ولكن القسم الآخر المتبقي –وهم الأكثرية– حاول بقصد أو بدون قصد، تصغير هذا الحدث والتقليل من شأنه، فعمد بطرق ساذجة إلى تقديم تفسيرات أخرى تهون من شأن الفاتحين، وتنسب الفضل في انتصارتهم إلى حالة المغلوبين، فتجعل ضعف المغلوب وانقسامه وحالته الهشة – التي فرضها المؤرخ طبعاً أنها حدثت وبنى عليها استنتاجاته - سبباً في توسع العرب المسلمين الذين لم يزد ما قاموا به على استغلال الموقف الحرج وتصيد الفرصة المناسبة للانقضاض على الفريسة المريضة والمتهالكة، والمقصود بالفريسة هنا غالباً الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.

وإن هذا الرأي لمنكر من القول، تنكره العقول وتكذبه الأحداث والوقائع التاريخية المسجلة والموثقة، كما ينقضه المنهج التحليلي والتناول المنطقي والواقعي لسياق الأحداث وتطوراتها في تلك الفترة.

وما زاد عجبي وتعجبي أن الكثير من جمهور الغربيين وغير المسلمين يصدقون هذه النظرية و ينطلقون منها في فهم هذا الانقلاب العظيم الذي حدث في الشرق الأوسط في أوائل القرن السابع الميلادي.

وفي الحقيقة فإن هؤلاء الذين يعملون على تأويل حدوث وتحقق الفتوحات العربية الإسلامية، تحركهم دوافع وعوامل عصبية وايديولوجية وعنصرية، وهم في عمومهم على ثلاثة فرق:

 1-المدفوعون بالعصبية الدينية ضد الإسلام 

 وغالباً ينتمي هؤلاء إلى المسيحية أو اليهودية -، وهدفهم من ذلك التهوين من أهمية الفتوحات الإسلامية، لنفي صبغة الدعم والتوفيق الإلهي لها، وبالتالي دحض التصور الإعجازي التاريخي للإسلام وظهوره على مسرح الأحداث، وأن العرب المسلمين كغيرهم من الأمم والشعوب مروا بالأطوار والمراحل التاريخية والحضارية نفسها التي مرت بها الأمم والأقوام التي أسست وبنت الإمبراطوريات والحضارات من قبلهم، وحققوا شروط النهضة والقوة التي حققها غيرهم.

 2-المدفوعون بالعصبية القومية والعنصرية

 وهؤلاء في جلهم مالوا إلى تحقير وتصغير الانتصارات والفتوحات الإسلامية في العهد الراشدي والأموي، وذلك في رغبة واضحة لعدم الاعتراف بقدرة العرب وفضلهم كأمة حاملة للرسالة وقادرة على تحقيق السيادة وفرض هيبتها على الأمم والشعوب الأخرى، فهم لم يستطيعوا استيعاب أو هضم هذا النهوض التاريخي المعجز للعرب وتحطيمهم لخصومهم من الأمم التي يعدونها في نظرهم أكثر تحضراً وقوة وعراقة، كالفرس والرومان. 

وكأن لسان حال أحدهم يقول: أنى لهؤلاء البداة الحفاة الجوعى أن يتمكنوا من تأسيس إمبراطورية والقضاء على الدول والإمبراطوريات المجاورة وهزيمتها، وذلك في انعكاس واضح للنظرة نفسها التي تبناها الفرس والرومان للعرب في ذلك الزمان.

 3-المدفوعون بالراديكالية العلمية

وهم أصحاب المنهج العلمي المادي أو الوضعي، الذي يحيد ويتجاهل العوامل الروحية والمعنوية ولا يأخذ الدوافع النفسية والعقائدية بعين الاعتبار عند تناول التاريخ وتأويل الحوادث والأحداث، فلا يتقبلون فكرة أن العقيدة الإسلامية ملكت من قوة التأثير في نفوس العرب وقلوبهم إلى الحد الذي دفعهم إلى والاستبسال والتضحية بالنفس والمال في سبيل نشر الدعوة وإعلاء كلمة الله تعالى، فيعتبرون أن النبي محمد كغيره من الشخصيات التاريخية المهمة والمؤثرة بلا شك، حمل مشروعاً استطاع أن يوحد به العرب ويجمعهم عليه، وخلفاء العرب بدورهم استطاعوا تأسيس الإمبراطورية بدافع التوسع والغنائم وهي دوافع غريزية عند الأمم والشعوب، وهذه الطائفة من المؤرخين يساوون بذلك بين النبي محمد وبين جنكيز خان، وبين العرب وبين المغول، فالحال من بعضه مع اختلاف في الجغرافية والدين واللغة.

تهافت ونقض هذه الأقوال والتأويلات

يمكن بيان بطلان هذه المذاهب في تأويل وتفسير هذا التحول التاريخي في سياقه، وذلك في عدة نقاط:

  • أولاً: كان يمكن قبول هذا التفسير – وإن كان على مضض – لو أن المسلمين العرب خاضوا حربهم مع إحدى الإمبراطوريتين حتى تمكنوا منها ثم تفرغوا للثانية، ولكن ما حدث عكس ذلك تماماً إذ أن جيوش الخلافة الراشدة كانت قد بدأت حربها على الجبهتين معاً، في العراق مع الفرس، وفي الشام مع الروم

 فمعركة القادسية التي حسمت الصراع مع الفرس على الجبهة الأولى وقعت في عام 15 ه، ومعركة اليرموك التي فتحت أبواب الشام حدثت قبلها بعامين فقط في تاريخ 13 ه، ومن المعلوم أنه مع وفاة الخليفة عمر بن الخطاب كان قد تم القضاء على الإمبراطورية الفارسية وتم طرد الروم من الشام ومصر، ومفاد ذلك أن جميع المعارك والفتوح المظفرة تمت بوقت متزامن على الجبهتين في عقد من الزمن.

 

  • ثانياً: خاض المسلمون أكثر من 13 معركة مع الفرس بما فيها معركتا القادسية ونهاوند، كما خاضوا الكثير من المعارك والاشتباكات مع الروم بما فيها المعارك الحاسمة والمفصلية كمعركتي اليرموك وأجنادين، هذا فضلاً عن فتح مصر ووقائعه، والسؤال المطروح هنا: لو كانت الروم والفرس على هذا القدر من الضعف والوهن، فلماذا اضطر المسلمون لخوض كل هذه المعارك

وإذا نظرنا إلى العدد والعدة الذي حشده كل طرف من الأطراف، وهنا سأعتمد على مصادر محايدة وأجنبية بما يخص أعداد الفرس والروم، فذلك أبلغ في الحجة وأقوى، مع العلم أن المصادر الإسلامية لا تخلو - كغيرها من المصادر غير الإسلامية - من المبالغات غير الواقعية وغير المنطقية بما يخص أعداد العدو وقواته

 ففي المصادر الأجنبية نجد على سبيل المثال أن أعداد الجيش الفارسي في معركة القادسية قد جاوز 80 ألف مقاتل، بينما قدر عدد الجيش الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص بين 6000 و 16000 مقاتل 

 بينما قدرت بعض المصادر الإسلامية أعداد جيش سعد بـ 23 ألف مقاتل وذلك كما جاء في تاريخ الطبري ، أما في اليرموك فكانت الغلبة العددية للروم بعدد 40 ألف مقاتل مقابل 24 ألف مقاتل من مسلمي العرب، وذلك وفقاً البروفيسور الأمريكي جون دبليو جاندورا (DR. JOHN W. JANDORA)، الذي اهتم بدراسة الفتوحات العربية الإسلامية وله فيها الكثير من الدراسات 

وقدرها مصدر آخر بتقديرات أقرب إلى الرواية الإسلامية، وأقرب إلى الحقيقة من وجهة نظري، فذكرت أن الأعداد التي حشدها هرقل تراوحت بين 100 ألف و150 ألف جندي بما فيهم المشاة والفرسان، بينما قاربت أعداد جيش خالد بن الوليد 40 ألف مقاتل 

وأكد المؤرخ الأمريكي برنارد لويس على التفوق العددي للبيزينطيين والفرس على العرب في الجبهتين، وقد أخذنا معركتي القادسية واليرموك كنموذج باعتبارهما المعارك الحاسمة على كلتا الجبهتين ولاهتمام المؤرخين والباحثين بتفاصيل وأحداث كل منهما، وهو ما يوفر بيانات ومعلومات تقديرية عند كل من المصادر الأجنبية والإسلامية لعدد وعدة كل طرف.

والمقصود من كل ذلك هو أنه رغم حالة الضعف والانقسام (المفترضة) التي كان يعاني منها الروم والفرس نتيجة الحروب فيما بينهما والصراعات الداخلية، فإنهم كانوا قادرين رغم ذلك على حشد جيوش أكثر عدداً وعدة من نظيرتها العربية !

  • ثالثاً: أما بالنسبة للقول بأن الروم والفرس كانوا في وضع منقسم ومتفكك داخلياً بسبب الحروب الأهلية والصراعات على الحكم، وخصوصاً وضع الإمبراطورية الفارسية، فإن الذين يتذرعون بذلك ينسون أو يتناسون حقيقة واضحة وجلية وهي أن المسلمين العرب كانوا قد خرجوا لتوهم من حرب أهلية داخلية في نفس العام الذي انطلقوا فيه لفتح العراق والشام وهي حروب الردة التي امتدت ميادينها على مساحة الجزيرة العربية وخاضتها جيوش المسلمين مع معظم قبائل العرب من ذوي البأس الشديد، وخسر فيها المسلمون خيرة القادة والفرسان من الصحابة، ولشدة التقارب الزمني بين حروب الردة وحروب الفتح فقد اعتبرها المؤرخ الأمريكي المشهور برنارد لويس حرباً واحدة، وأن حرب الفتح هي امتداد طبيعي لحروب الردة ونتيجة لها، فيقول في كتابه (العرب في التاريخ): 
"وتحولت حروب الردة التي كان هدفها في البداية إعادة الناس إلى حظيرة الإسلام، إلى حرب فتح تجاوزت أخيراً حدود الجزيرة العربية، وتغلغلت فيما وراءها. وكان الفتحان، أي فتح الجزيرة وفتح الولايات المجاورة لها مثل العراق وسورية ومصر، متشابهين ومتداخلين لا متتابعين". 
  • رابعاً: ثم إننا لو رضينا بهذا التبرير الهش، فكيف يمكن تفسير فتوحات بلاد ما وراء النهر وبلاد السند، وشمال أفريقيا والأندلس!؟ 

والمطلعون على تاريخ الفتوح يعلمون أن حروب العرب المسلمين في الشمال الإفريقي مع البربر في العصر الأموي، لا تقل ضراوة وشدة عن حروب الخلافة مع الروم والفرس، فهل كان البربر والقوط الغربيون وأتراك آسيا الوسطى وأهل السند كلهم في حالة الضعف والتشتت ذاتها، فياله من تصادف عجيب، ويالحسن سعد العرب وحظهم.

  • خامساً: التفاوت والتباين الكبير بين حروب العرب و حروب الفرس والروم، فحرب العرب كانت حرب غارة وحرب قبيلة تعتمد الكرك والفر في أسلوب قتال بدوي تقليدي، بينما كان الفرس والروم يمتلكون جيوشاً نظامية عظيمة ومدربة على قتال نظائرها، ونحن إذ نفترض ذلك ونقوله فإننا ما تجاوزنا الحق، فهو صحيح ويصدقه الواقع في تلك الفترة والتفاوت في الحال بين العرب وجيرانهم.

وتؤكد ذلك الروايات والنصوص التاريخية التي أظهرت التعالي والكبر في خطاب ملوك الفرس والروم وقادتهم لقادة المسلمين أثناء المفاوضات والمراسلات التي جرت بينهم قبل الشروع في المعارك، ويمكن الرجوع لها جميعها والتحقق منها في المصادر التاريخية المعتبرة والموثوقة. وهذه النقطة أيضاً تضاف لصالح المسلمين العرب على حساب نظرائهم من الفرس والروم، حيث أن الأعاجم ما زالوا حتى تلك الفترة يستهينون بالعرب. كما أن هذه النظرة الدونية حدت بجميع الجيران المغلوبين ورعايا البلدان المفتوحة إلى التفكير والاعتقاد بوجود مؤامرة يهودية مسيرة من قبل اليهود الأعداء التقليديين للمسيحية، وهو ما تحدث به أغلب المؤرخين والإخباريين ورجال الدين المعاصرين للفتح العربي، وذلك أنه

"بما أن العرب، في عين جيرانهم، حفنة من رعاة الماعز والإبل وما كان يخطر في بالهم تحدي إمبراطوريتين عظيمتين ومواجهتها عسكرياً ودينياً، فالأكيد هو أن جهة ما دفعتهم إلى غزو البلدان المجاورة للجزيرة العربية واجتياحها وزودتهم بالسند الديني – الإيديولوجي لتحركهم".  

والأكثر غرابة أن الشعوب المغلوبة نفسها لم تنسب هزيمتها إلى قلة العدد والعدة، بل اعتبرته غضباً من الله على الذنوب والآثام التي ارتكبها أهل الإيمان، وعللوا ما حدث بأنه عقاب من الإله الذي سئم من الصراع والشقاق بين أبنائه، ومل من سوء أخلاقهم ومن عصيانهم للكنيسة والخروج على سلطتها وهذا تأويل لاهوتي بحت يتجنب التكلف والابتذال الذي عمل به بعض المؤرخين والعلماء الحداثيين الذين نزحوا تحت وطأة المنهج العلمي الحديث في تناول التاريخ دون أي نقد أو حتى جرأة على نقد هذا المنهج.

وإنني من وجهة نظر شخصية، لأجد أن أقرب نظرية وتأويل للفتح العربي الإسلامي إلى الحقيقة والواقع، وهو ما يمكن أن أوافق عليه وأتفق معه، ما وجدته وأنا أقلب صفحات كتاب "السنن النفسية لتطور الأمم" لغوستاف لوبون المعروف بنقده لمناهج وطرائق تفكير المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من المتأخرين.

 استنتاجه الذي وصل إليه من دراسته لمختلف الفتوح في العصور القديمة، وذلك عند حديثه في هذا الإطار وتفسيره للفتح الروماني لبلاد اليونان، حيث قرر أن الأقوام التي تملك ملكات متوسطة - يقصد الرومان هنا – تستطيع إذا ما تصرف فيها مثل عال قوي، أن تقوض الحضارات الرفيعة – يقصد اليونانيين – وشاهدنا هنا هو ذلك "المثل العال القوي" الذي حرك العرب وأهلهم لهذا الفتح والنصر الكبير، والعرب في الأصل يمتلكون تلك الملكات المتوسطة بل وأكثر منها، وبمعنى آخر فهم يمتلكون حتى في الجاهلية مقومات القوة والنصر، كالشجاعة والشدة والحمية وغيرها، فضلاً عن مزايا أخلاقية أخرى كانت تتملك سلوكياتهم كالكرم والمروءة والوفاء، ولذا فبإسقاط هذه النظرية على ذلك التحول والنهوض التاريخي المتمثل بالفتح العربي وانتصاره على حضارتين معاً، فإن المثل العال القوي هنا هو قطعاً الإسلام ديناً وعقيدةً وأخلاقاً.

إذاً، نخلص مما تقدم إلى تهاوي و تهافت دعاوى وتفسيرات الذين بادروا إلى تقليل أهمية الانتصارات العربية الإسلامية وشرحها بطريقة تنفي عنها الوجه الاستثنائي والفريد تاريخياً، والذي لا يخلو من وجهة نظرنا من تدخل إلهي حتمي لإظهار الدين الحق على الدين كله، وبالطبع فإن ذلك النصر كان له أسبابه الدنيوية المقدرة.

 وأولها طبيعة الحامل الاجتماعي للإسلام وهم العرب، فهم الذين نزلت عليهم الرسالة الخاتمة وكلفوا بحمل رايتها ونشرها، وهم قوم محاربون، ولعل القتال والحرب أبرز صفاتهم و أخص خصائصهم بوصف كثير من المستشرقين أنفسهم، فيتميزون بكافة مزايا الحرب من الشجاعة والصبر، وتكملها مشاعر الحمية والغيرة على العقيدة والقيم في حال آمنوا بها وصدقوها. 

وبناء عليه كان من الطبيعي والمعقول جداً أن يحدث هذا الانفجار التاريخي العظيم الذي انطلق بشرارة " اقرأ "، لتلامس القلوب والعقول السليمة والفطر النظيفة كنظافة ونقاوة صحراء ساكنيها، فتنقلهم من رعي الإبل والغنم إلى رعي ورعاية الأمم.

 فصنع الإسلام بهم ولهم تاريخاً جديداً ما بعده ليس كما قبله

حيث نشأت أمة من العدم، أمة بخصائص ومفاهيم و تعاريف وتصورات جديدة، ظلت تسير في مسار له من المنحنيات والتعرجات الكثير، لكنه مستمر ومستديم، وما زالت موجودة رغم ضعفها وانحطاط أحوال أهلها، غير أنها تدعي رغم ذلك ملكيتها الأبدية للحق والحقيقة المطلقة، وما دونه الباطل مهما علا شأن أصحابه وسمت بهم أسباب القوة والمادة.