يعتبر الفن واحدًا من أهم السمات التي تتميز بها الحضارات والفلسفات عن بعضها البعض، كما يعتبر في الجهة المقابلة واحدًا من أهم اللغات التي يتواصل بها بنو الانسان مع بعضهم البعض بصرف النظر عن الاديان والاعراق والاجناس، وإذا أردنا أن نلقي بشيء من الضوء عن أهمية الفن في زراعة القيم المجتمعية التي ترسم تضاريس هويته، فإننا نحتاج الى البحث عن طبقات الوعي في المجتمع كيف تتشكل ومن ثم سنقف على موضع الفن منها، فالوعي المجتمعي هو الذي يحكم السلوك المجتمعي السائد، وهو الذي سيتكشّف في مجموعه على الوجه الحضاري والثقافي لأي مجتمع كان.

يحتاج الإنسان العادي في المجتمع كي يهضم الفكرة التي ستكون سببا في سلوكه الرشيد الى أحدهم يذكره بها أو يحثه عليها، سنسمي هذا الفاعل بالواعظ أو الخطيب ولا أقصد بهذا المصطلح الواعظ الديني فحسب، إنما أقصد كل مبشر بكونه واعظا، يدخل في هذا أصناف كثر كالإعلاميين في مستوى معين وخطباء الجمعة أيضًا وبعض المصلحين في المجتمع بشكل عام، والواعظ باختصار هو الذي يبذل جهدا محترمًا من خلال مؤهلاته الخطابية في تذكير الناس وإرشادهم وتوجيههم عبر الخطاب العاطفي الذي يحرك مشاعرهم فينشطون للسُلوك المطلوب.

هذه الفئة من الخطباء والوعاظ تستنزف الكثير من وقتها وجهدها في التركيز على علاقتها الحميدة مع الناس وكذلك تحتاج إلى الكثير من محسنات الخطاب كي يكون له أثر بالغ، فستكون هي بدورها في حاجة إلى طبقة أخرى تمدها بالمعارف وترتب لها الأولويات التي من خلالها يتشكل خطابها الوعظي إذا أريد له أن يكون هادفا.

هذه الطبقة هي طبقة المثقفين، والمثقفون هم أولئك الذين يمتلكون القدرة على التموضع حلقة وسطا بين المعارف الصُّلبة التي سنتحدث عنها قريبا وبين الخطباء الذين سيُحدّثون بها هم أيضًا العوام بأسلوبهم الخاص.


وتموقع المثقفين في هذه النقطة من مصفوفة الوعي المجتمعي تجعلهم فعلا مطالبين بالقدرة على التعامل مع المعارف من مصادرها الواثقة والرصينة، فَموثوقية المعارف أمر مهم جدا في الأثر على السلوك لاحقًا، فكثير من السلوكات غير الرشيدة التي تصبغ كثيرًا من المجتمعات قد يكون من أسبابها المباشرة عدم موثوقية المعارف السائدة فيها وانتسابها إلى الاشاعة أو الخرافة والامثولات والاساطير!
وهذا الأمر يحتاج من المثقفين جهدًا محترمًا، فالاطلاع على الكثير من المعارف المتنوعة ومن ثم المبالغة في التحقق من موثوقيتها ليس بالأمر المتاح للجميع، فسيتطلب منهم مجهودًا محترمًا لا شك، ضِف إلى ذلك أن هذا لوحده لا يكفي، بل يحتاج منهم إلى مجهود آخر وهو تيسير تلك المعارف المعقدة في مجالات مختلفة حتى يتناولها الوعاظ والخطباء بشكل يسير وتكون في متناولهم للتبشير بها في المجتمع العام.
كما أن مهمة المثقفين أيضًا تجعلهم يخالطون الناس ويتلمّسون همومهم فيجعلونها في قوالب توضع كإشكاليات لتُبحث من قبل الطبقات الأكثر وعيًا وتعمقا، ذلك أن الطبقات الأكثر وعيًا في الغالب لا تتاح لها فرص مقابلة طبقات عريضة من الجماهير في حياتها اليومية لتفرغها المعرفي.

الطبقة التي تأتي فوق المثقفين مباشرة هي طبقة العلماء المختصين، فهي الفئة التي يناط بها التدقيق في المعارف وجعلها صلبة بالقدر الذي تكون موثوقة وفاعلة ومنتجة، وتموقعهم في هذه النقطة المتقدمة من مصفوفة الوعي كما هو معروف يحتاج إلى تمكن حقيقي وجهود تحتاج سنين من التكوين والبحث والتدقيق والتخصص قد يصل إلى عقود من الزمن، ويكون التخصص هو السمة البارزة التي تتمتع بها هذه الطبقة من طبقات الوعي في المجتمع، في الوقت نفسه هذه الطبقة ذاتها تحتاج الى مناهج للتحقق من دقة المعارف التي يُحصّلونها في سبيل جعلها معارف صلبة تدور في فلكها الثقافة والوعظ والصبغة المجتمعية العامة، وهذا ما يجعلنا نقفز مباشرة إلى طبقة أكثر وعيًا وشمولية وهم المفكرون الذي يناط بهم أمران اثنان مهمان للغاية، أول نقطة وهي البحث في المناهج العلمية التي ستكون وسيلة العلماء في التخصص البحثي الدقيق وتلك المناهج على ضوئها سيكون من اليسير معرفة صلابة العلوم من هشاشتها ودقة المعارف وعمقها من سطحيتها، وأي انحراف في المناهج العلمية سيلحقه لاشك انحراف في المنجزات العلمية ذاتها وهكذا يبقى الانحراف نازلا الى ان يصل الى سلوك المجتمع العام.


النقطة الأخرى التي تناط بالمفكرين هو طرح الإشكاليات الواقعية وتكثيفها وترتيبها حسب الأولويات القصوى حتى تقدم للعلماء على أنها ذات أهمية قبل غيرها، والمفكر الذي لا يُمكِّنه فكره من القدرة على ترتيب أولويات الإشكاليات الواقعية وتوجيه بوصلة الاهتمام تجاهها مباشرة، سيكون فكره مخذلا ووبالا على المجتمع بشكل عام، وهذا ما يجعلنا بشكل تلقائي نقفز إلى الطبقة الاكثر وعيا وهم الفلاسفة.

الفلاسفة هم اولئك القوم الذين يبحثون أولًا في مناهج المعرفة وطبيعة الانسان، وحين نقول مناهج المعرفة التي نتحدث عنها هنا في هذا المستوى فعلينا أن نعي أنها ليست هي نفسها مناهج البحث العلمي التي يتحدث عنها المفكرون، فالمقصود بمناهج المعرفة هنا هو التدقيق في المنطلقات الأساسية التي ستنطلق منها مناهج الفكر حسب كل تخصص، فلفسفة الأخلاق تختلف عن فلسفة الاجتماع عن السياسة عن الاقتصاد عن غيرها، لكنّها في نهاية المطاف تجتمع كلها في البحث في طبائع الاشياء والمنطلقات، فالتصور الفلسفي عن الإنسان مثلا سيؤدي بشكل تلقائي في بناء مناهج ستكون خلفية للعلوم التي هي بدورها ستكون مادة للثقافة وتكون في نهاية المطاف شغل الوعظ ومتكأ الخطباء في صياغة الهوية المجتمعية بشكل عام.


والتباين في وجهات النظر الفلسفية منذ الانطلاقة الأولى سيلحقه تباين في تضاريس الهويات المجتمعية التي ستنتهي بها رحلة الوعي عبر كافة الطبقات التي تحدثنا عنها بشكل مقتضب.

إذا كنا قد أشرنا لكل هذه الطبقات التي تشكل الوعي في المجتمع فما علاقة كل هذا بالفن يا ترى؟ الاجابة عن هذا السؤال هي محور هذا البحث السريع في أهمية الفن من ناحية و فهم التباينات الكبرى التي يطرحها الفن بمختلف مرجعياته المعرفية والفلسفية.

الفنانون هم الطبقة المتحركة بين كل هذه الطبقات فهي التي تمتلك من المواهب الفطرية والمهارات المكتسبة ما يمكنهم من القفز المباشر من مخرجات كل طبقة من الوعي الى المجتمع العام مباشرة دون الحاجة الى المرور الكلاسيكي عبر كافة الطبقات الاخرى.


فالفنان العظيم الذي بلغ مراتب عظمى من الفن هو القادر على القفز مباشرة من مخرجات الفلسفة الى المجتمع العام، والأقل منه من المفكرين الى المجتمع العام والاقل منه من العلماء الى المجتمع العام والاقل منه من المثقفين الى المجتمع العام والاقل منه من الوعاظ والخطباء الى المجتمع العام، وأقل مستوى فني هو الذي يقوم برسكلة منتجات المجتمع العام الى المجتمع العام يعني ينقل من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب وهكذا، لأنها مواهب لم يتم اكتساب أية معارف معها لا صلبة ولا مناهج ولا إشكاليات ولا أي شيء من هذا، وهذا النمط الأخير سائد ومنتشر في المجتمعات المتخلفة مع الأسف.

يتمظهر الفن بوسائله في أشكال عديدة منها الأدب والشعر ومنها النثر والرواية ومنها المسرح والغناء والانشاد ومنها الرقص والكوميديا والسينما بكل ما تحمله تحت ردائها ومنها الرسم والنحت والسّباكة والطباعة والزخرفة والتجميل والعمران والبناء وغيرها كثير جدا.


وبالقدر الذي تكون فيه المدخلات المعرفية عظيمة بالقدر نفسه تكون المخرجات عظيمة وبالقدر الذي تكون فيه المدخلات تافهة وساذجة بالقدر نفسه تخرج من الفن تلك المنجزات، كمثال على ذلك خذ مثلًا مخرجًا أو سيناريست متمكن جدًا من مواضيع في علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة وغيرها، ستكون مخرجاته سواء كانت أفلام ومسلسلات أو مسرح أو أي مُخرَج سيكون عظيمًا وبالغ الأثر في المجتمع وستلتقط الناس الاشارات العميقة دون أن تكون ملزمة على سلوك طريق الوعي المعقد من وعاظ ومثقفين وعلماء ومفكرين إلى الفلاسفة.. الخ.
وهكذا في كل المجالات يحدث نفس الشيء، اذا استحضرنا هذه المصفوفة بشكل جيد وأدركنا خطورة الفن منها في تشكيل الوعي ومرونته الفائقة وتميزه على كافة اقرانه من طبقات الوعي لندخل بهذه المعارف إلى مخرجات الفن في الفلسفة العلمانية ونرى ما الذي يمكن ان تنتجه يا ترى؟!

في مقال سابق تحدثنا عن مفهوم العمل في المنظومة العلمانية، وما ذكرناه هناك عن تعريف العمل فالفن أيضًا عمل لا يسأل أبدًا صاحبه عن الأسئلة الني تطرحها المعايير الاخلاقية وغيرها فهو مهنة تدر مالا مقابل جهد ومهارة، وفي مقال سابق تحدثنا أيضًا عن الفردانية في الثقافة العلمانية فهي واحدة من أهم المخرجات التي يركز عليها الفن العلماني بشكل مستمر ويرسخ مفاهيمها وآليات تحصيلها بشكل درامي واحترافي حتى تغدو مطلوبة الجماهير في سبيل تحقيق النجاح كما تركز على ذلك الفلسفة العلمانية.
في مقال سابق أيضًا تحدثنا عن الاستهلاك والمجتمع الاستهلاكي ، والامر نفسه هنا في الفن فالثقافة الاستهلاكية واحدة من المحاور البارزة التي يتّسم بها فن العلمنة ابتداء من إستهلاك الانسان نفسه وتسليعه والمرأة بوجه أكثر خصوصية إلى استهلاك كل ما عدا ذلك، فتفاعل المادة بعضه مع بعض لانتاج اللذة والمتعة هو محور أساسي في الفن المتعلمن.

وبالمحصلة كل ما يمكن أن تنتجه المعارف العلمانية في طبقاتها المختلفة انطلاقًا من نظرتها للإنسان والأخلاق والسياسة والقانون والاقتصاد ..الخ سيكون محور الفنون المختلفة التي ستتمخض عنها منجزات الفن العلماني.

من المؤسف القول أن هذا العالم الرائق لا يزال فيه المسلمون تبع لغيرهم من اساتذة العلمنة فبعد أن كان الشعر والزخرفة والعمارة والأدب والرواية والمسرح وغيرها من الفنون حاضرة بقوة في العهد الأول من عصور الإسلام والتي شكلت بشكل مباشر العقل الجمعي الإسلامي في قيمه الحضارية الكبرى، يمكننا بكل بساطة في رمضان وغير رمضان إدراك المستوى المتدني جدا من الفن الهابط الذي يرسكل مخرجات المجتمع العام،  والذي لا علاقة له مطلقًا بما هو أعلى مرتبة في موازين الوعي، لذلك تصدرت التفاهة ودخلنا في قلب الفن المتعلمن الذي يخاطب الغريزة ويثير الشهوة وينشر السذاجة والتفاهة والعنف والسحر والجنس.

فمتى يلتفت الموهوبون من أبناء الإسلام إلى أهمية الفن وقدرته الفائقة على تغيير المجتمعات في جميع المستويات، ومتى تتجه المؤسسات الإعلامية الفاعلة إلى أهل الوعي والفن الرسالي العميق لتمكينهم من المشاركة في الارتقاء بالوجه الحضاري للشعوب يا ترى!؟