لا يلزم لإثبات أني مثقفٌ تقدميٌّ عصرانيٌّ نابذٌ للخرافات وملتزمٌ بالعلم أن أنفيَ كلَّ معنىً إيمانيٍّ لأحداث الحياة، كما يفعل فريقٌ ممن يسارعون إلى مهاجمة كلِّ من يقرأ معنىً إيمانيًّا في هذه الأحداث ويصمونه بالجهل والخرافة! في التصوُّر الإيمانيِّ، هناك مصطلح "الآيات"، وهي في معناها البسيط تعني الإشارات؛ إشارات من الله للناس تعرِّفهم بصفاته من رحمةٍ ولطف وقوةٍ وقهر وعدلٍ وإبداع. معنى الآيات يبلغ من السعة أنَّه يشمل كلَّ ظواهر الطبيعة وقوانين الكون، كما جاء في القرآن: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101]. بل إنه يشمل كل الأحداث التي يعايشها البشر في حياتهم، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. كل حدثٍ يمرُّ في حياتنا يحمل آيةً، حتى المنشور الذي تظنُّ أنَّك تقرؤه صدفةً، أو الحديث الذي تسمعه عابرًا، أو المقطع العابر الذي تلتقطه أثناء تصفحك للإنترنت. كل هذه الأحداث التي تبدو عابرةً تحمل رسالةً من الله.
لكنَّ الاختلاف يحدث بين الناس؛ فهناك من يغفل فلا يفهم شيئًا ويقول إنها مجرد أحداث طبيعية، كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: 95]. وهناك من يقوِّي حضوره ويقظته فيكتشف العلاقات الخفيَّة عبر التفكر والربط بين المقدمات والنتائج والتأمل في نسق الحياة. لذلك، فإن الردَّ على الرؤية الإيمانيَّة لأحداث الحياة بأنها "ظواهر طبيعيَّة" هو ردٌّ فارغ علميًَّا، كتفسير الماء بالماء. نعم، هي ظواهر طبيعيَّة، ولكن ما معنى الطبيعة أصلًا؟ وهل هي نقيض الرؤية الإيمانيَّة؟ الطبيعة هي ميدان فعل الله، والظواهر الطبيعية هي سنن الله وقوانينه وكلماته، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ [الكهف: 109]. فالله يتكلم معنا بهذه الكلمات "القوانين والأحداث". فالتفسير العلمي للظواهر لا ينفي المعنى الإيمانيَّ، بل يعززه.
المشكلة لا تكمن في التفسير الإيماني ذاته، بل في انتقائيَّة التفسير واختزاليَّته، وهو ما يضعف المحاجَّة العلميَّة. فمثلًا، إذا مرض من نحب قلنا إنه ابتلاءٌ من الله، وإذا مرض من نبغضه قلنا إنه انتقامٌ من الله. المشكلة هنا تكمن في الأهواء وإقحامها في توجيه التفسير، بينما مقصد رسائل الله أن يعتبر الإنسان منها ويتعظ، لا أن يستعملها لتزكية نفسه أو الشماتة في أعدائه.
علينا أن نتذكر أن من صفات الله "الواسع"، وهو نقيض الضيق والمحدود. نحن نسقط محدوديتنا البشرية على الله، فنريد إجابةً اختزاليةً بكلمةٍ واحدة: هل هو عقاب؟ أم ابتلاء؟ أم تحذير؟ والحقُّ أنه كل ذلك معًا، فالله واسعٌ عليمٌ، وحدثٌ واحدٌ قد يحمل مليارات الرسائل بعدد نفوس البشر.
التجربة الإيمانيَّة ذاتيَّة، لأن الله يتواصل مع كل نفس في باطنها ويفهمها جوانب من الحكمة لا يعرفها غيرها. ففي حرب غزة مثلًا، يختلف الناس في تفسير الحرب؛ فمن يراها ابتلاءً للمؤمنين، ومن يراها عقابًا للظالمين، ومن يراها تطهيرًا للمذنبين. والصواب أن كل هذه الجوانب صحيحة، لأن الله واسع. الحدث الواحد قد يكون عقابًا على قدر الذنب، وتطهيرًا على قدر الخير، وابتلاءً للصادقين.
العبرة بالرسائل الإلهية أن يفهمها الإنسان فيعتبر منها، فالرسالة الإلهية ليست مسألةً نظريةً للجدال، بل هي تذكير ممن خلقك ويعلم سريرة صدرك.
لذلك، فإن التفسير الإيماني للظواهر الطبيعية يجب أن يكون موعظةً للناس، وأن يعرف القلب المقصود ويتعظ به. فحين يحدث حريق في كاليفورنيا ويفهم فريقٌ من الناس أنَّه رسالةٌ من الله بأنَّ لقوة البشر حدودًا، فهذا معنىً حقٌّ. وحين يربط فريقٌ بين مصاب المستضعفين في غزة ومصاب الأثرياء في لوس أنجلوس، فهذه إشارةٌ من الله بأن الظالمين لا يفلتون من قدرته. الضابط في كل هذه التفسيرات أن تكون فيها موعظةٌ للناس، لأن مقصد الله من تصريف الآيات أن يتعظ الناس ويتذكروا.
أما التساؤلات مثل "لماذا لم يحرق الله تل أبيب بدل لوس أنجلوس؟"، فهي تساؤلات ساذجة، فالله يصرِّف الأحداث بطريقته وتقديره. المهم أن يتيقظ الإنسان روحيًّا ويقرأ معنى كل ما يحدث له أو من حوله، وينتفع من ذلك في تزكية نفسه حتى لا يكون من الغافلين.