إنّ مسألة رؤيةِ أهل الجنة لربّهم جل في علاه بالأبصارِ من أشرفِ المسائل وأكثرها تشريفاً وتعظيماً لأمرهم، إذ هي الغايةُ القصوى، والنهايةُ العظمى، وأعلى الكراماتِ، وأفضلُ الأعطيات التي شمّر إليها السابقون، وتنافسَ فيها المتنافسون، واِجتهدَ في نيلها العابدون، وتضافرت النصوصُ من الكتاب والسنة الصحيحة، على أنّ المؤمنين يرون اللهَ عزَّ وجلَّ بأبصارِهم، كما يرون القمرَ ليلةَ البدرِ.
وإن من الآيات التي تدلُّ على رؤية الله تعالى كثيرة، وهي أنواع منها:
1ـ آيات المزيد:
قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: 26] وقال رسول الله(ﷺ): «إذا دخلَ أهلُ الجنّةِ الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدونَ شيئاً أزيدُكُم، فيقولون: ألم تبيِّض وجوهَنا ؟ ألم تُدْخِلْنا الجنَّةَ، وتُنْجِنَا مِنَ النارِ؟ قال: فيُكْشَفُ الحجابُ، فما أُعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربِّهم عزّ وجلّ»، ثم تلا هـذه الآية ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ [يونس: 26].
وقال رسول الله (ﷺ): «الحسنى: الجنّةُ، والزيادةُ: النظرُ إلى وَجْهِ الرحمـن» وهـذا الحديثُ متواتِرٌ يُقْطَعُ بصحته.
وقال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ *﴾ [ق: 35] وعن عليِّ وأنس رضي الله عنهما أنَّ تفسير هـذه الآية النظرُ إلى وجه الرحمـن . قال ابنُ كثير: وقوله تعالى: كقوله ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا﴾ كقوله عز وجل: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس:26].
2 ـ الآيات الصريحة في النظر إلى وجه الله تعالى:
قال تعالى: ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *﴾ [القيامة: 22 ـ 23] الناضرة: الحسنة، حسّنها الله بالنظر إلى ربّها عز وجل، وحقَّ لها أن تَنْضُرَ وهي تنظر إلى ربِّها جل جلاله، وفي قوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ هـذا من ؛ أي: إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة، أي تنظرُ إليه، والمرادُ به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أنَّ العبادَ ينظرن إلى ربّهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمرِ ليلةَ البدرِ.
3 ـ آيات حرمان الكفار من رؤيته سبحانه:
بين سبحانه في بعض الآيات أنّه يَحْرِمُ الكفارَ من النظر إليه عقوبةً لهم على كفرهم، وهـذا يدلُّ بمفهومه على أنَّ المؤمنين يرونه سبحانه، إذ لو كان المؤمنون لا يرونه أيضاً، لما كان لتخصيصِ الكفار بالحرمان فائدةً، بل أصبحَ هـذا الكلامُ من العبث الذي ينزّه عنه الشارع .
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *﴾ [آل عمران: 77] قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *﴾ [المطففين: 15] وفي هـذه الآية دليلٌ على أنَّ الله عز وجل يُرَى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هـذه الآية فائدةٌ، ولا خَسّتْ منزلةُ الكفار بأنهم يحجبون، وقال مالك بن أنس في هـذه الآية: لمّا حجبَ أعداءَه فلم يروه، تجلّى لأوليائه حتى رأوه .
وقال الشافعي: لمّا حجب قوماً بالسخط، دلّ على أنّ قوماً يرونه بالرضا، ثم قال: أما واللهِ لو لم يوقن محمد بن إدريس أنّه يَرى ربَّه في المعاد لما عبده في الدنيا.
وعن أشهبَ قال: سأل رجلٌ مالكاً: هل يرى المؤمنون ربَّهم يوم القيامة ؟ فقال مالك: لو لم يرَ المؤمنون ربَّهم يومَ القيامة لم يعيّر اللهُ الكفّارَ بالحجابِ، فقرأ: فقيل ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *﴾: يا أبا عبد الله فإنّ قوماً يزعمون أنّ الله لا يُرى، فقال مالك: السيفَ السيفَ .
4 ـ آيات العندية:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هـذه الآية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *﴾ [آل عمران: 169] قال: أما إنّا قد سألناه عن ذلك . ـ يعني رسول الله (ﷺ) ـ فقال: « أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ، فاطّلعَ إليهم ربُّهم اطلاعةً فقال: هل تشتهونَ شيئاً ؟ قالوا: أيْ شيءٍ نشتهي، ونحنُ نسرحُ من الجنّةِ حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلمّا رأوا أنّهم لن يُتركوا مِنْ أنْ يَسْألوا فقالوا: يا ربّ نريدُ أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتى نُقْتلَ في سبيلكَ مرّةً أُخرى، فلمّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةً تُرِكُوا ».
5 ـ آيات الملاقاة :
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *﴾ [البقرة: 223] وقال تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا *﴾ [الأحزاب: 44]. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا*﴾ [الكهف: 110] .
وقال ابن مسـعود: من أرادَ النظـرَ إلى وجـهِ اللهِ خالقـهِ فليعملْ عملاً صالحاً، ولا يخبر أحداً وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 46]. قال ابن القيم: وأجمعَ أهلُ اللسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِبَ إلى الحيِّ السليم من العمى والمانع اقتضى المعاينةَ والرؤية.
6 ـ الأحاديث النبوية في الرؤية:
ثبتت رؤيةُ المؤمنين للهِ عزّ وجلّ في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترةٍ عند أئمة الحديث لا يمكنُ دفعُها ولا منعُها، وقال ابنُ أبي العزّ الحنفي: وقد روى أحاديثَ الرؤيةِ نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفةً يقطعُ بأنَّ الرسول (ﷺ) قالها[(936)]، ومن هـذه الأحاديث:
- ما رواه أبو سعيد رضي الله عنه أنَّ أناساً في زمن النبيِّ (ﷺ) قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ ؟ قال النبيُّ (ﷺ): «نعم، هل تضارّونَ في رؤيةِ الشمسِ بالظهيرةِ، ضوءٌ ليس فيها سحابٌ؟»، قالوا: لا، قال: « هل تضارّونَ في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، ضوءٌ ليس فيها سحابٌ؟»، قالوا: لا، قال النبي (ﷺ): «ما تضارُّونَ من رؤيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ إلاَّ كما تضارُّون في رؤيةِ أحدِهما».
- عن أبي هريرة أنّ ناساً قالوا لرسولِ اللهِ (ﷺ): يا رسولَ اللهِ هل نرى رَبَّنا يومَ القيامةِ ؟ فقال رسولُ اللهِ (ﷺ): «هل تضارُّونَ في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البَدْرِ؟»، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تضارُّونَ في الشمسِ ليس دونها سحابٌ ؟ »، قالوا: لا يا رسول الله، قال: « فإنّكم ترونه كذلك» .
- وعن جريرِ بن عبد الله قال: قال النبيُّ (ﷺ): «إنَّكم سترونَ ربَّكُم عياناً».
7 ـ رضوان الله أكبر :
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *﴾ [التوبة: 72] أي: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ الله عنهم وأكبر وأجلّ وأعظمُ مما هم فيه من النعيم .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ (ﷺ) قال: «إنّ الله عزّ وجلّ يقولُ لأهل الجنَّة: يا أهلَ الجنّةِ، فيقولون: لبيكَ ربَّنا وسعدَيكَ، والخيرُ في يديكَ . فيقول: هل رضيتُم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربِّ، وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من خَلْقِك ؟ ! فيقول: ألاَّ أُعطيكم أفضلَ مِنْ ذلك؟ فيقولون: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك ؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكم بعدَه أبداً».