أكثر ما يشدّني إلى شخصيّة سيدتنا وأمّنا خديجة بنت خويلد الأسديّة رضي الله عنها أنها كانت سيّدة ناضجة متوازنة الشخصيّة، ولديها ثبات نفسيّ عجيب يجعلها امرأة استثنائيّة فريدة كانت من أركان الإسلام الأولى.

السنوات التي قضتها مع سيدي رسول الله بعد البعثة هي من أصعب السنوات وأكثرها أزمات وأحداثاً ضاغطة أظهرت فيها شخصيتها العظيمة، وأثبتت أنها سيدة الثبات الأولى التي تستحق أرفع مقامات التكريم على أدوارها في بدايات الإسلام وبزوغ شمسه.

لقد أدركت أن زوجها رجل استثنائيّ، وقررت أن تكون إضافة له وتكميلاً، وأن تسخّر كل إمكاناتها ليؤدي رسالته، ويحظى ببيئة داخلية مستقرّة يجد فيها الأنس والراحة وصلاح البال والتوازن.

كانت تذهب إليه في تحنّثه في غار حراء تمشي نحو خمسة أكيال ونصف لتوصل له طعامه وشرابه وزاده، وتصعد جبلاً يزيد ارتفاعه عن ثمانمائة وستين متراً فوق سطح البحر، ولا تزعجه، ولا تقطع عليه خلوته، ولا تعكّر عليه صفو وصاله مع السماء، وكأنّها كانت تدرك أن شخصية زوجها لا يمكن أن تجعله راهباً ينقطع عن الناس ويعتزلهم، بل إنه كان يتزوّد ليعود للناس، ويكون معهم، ويحملهم برفقته إلى بوابة السماء التي نهَل منها.

سخّرت السيّدة العظيمة أموالها في خدمة زوجها، وأضافت رصيدها إليه، ومكّنته اقتصاديّاً حتى قال بعض المفسرين إن ربّنا أغنى سيدنا محمّداً بمالها (ووجدك عائلاً فأغنَى)، وقد حكى ابن شهاب الزهري أنها أنفقت أربعة وأربعين ألفاً على مشروع زوجها ورسالته.

وقاست أمّنا خديجة عضّة الحصار والحرمان ثلاث سنين لكنها لم تكن شخصية سلبيّة أو حياديّة فاستخدمت نفوذها القبليّ والمالي في قومها بني أسد لإسناد أسرة زوجها المحاصرين في بني هاشم، واستغلّت ثغرة في صحيفة المؤامرة لا تنصّ على حصار من هم من غير بني هاشم وبين المطلب فكان يأتيها دعمٌ من أهلها ولاسيما ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد فتجعل ما يأتيها لهذا المجتمع المحاصَر الجائع.

كانت فوق إيمانها العميق وحنيفيّتها الظاهرة الحلقة الأقوى حول رسول الله، تدعمه وتؤازره وتدثّره وتزمّله وتؤمن بصدقه ومصداقيّته وتعرف مواضع التفوّق فيه، وتدرك أن رسالته تستحق أن يتحمّل المرء فيها أشدّ العناء، وما تزال كلماتها شاهدةً على وعيها الحاضر وفكرها العميق: "كلا والله لن يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرحمَ، وتَحمِل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، أبشِر يا ابن عمّ، واثبت! فوالذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمّة".

وقد وصلت خديجة إلى يقين كامل بأن هذه الصفات الكاملة في زوجها هي صفات نبيّ موحَى إليه، وهذا الإدراك من شواهد رجحان عقلها وكمال شخصيتها وقوّة معارفها، ولذلك استدعت ابن عمها العالِم العارف بالكتب والأديان ورقة بن نوفل ليعين في تثبيت زوجها وتقويته على حمل رسالته في بداية التكليف الإلهي له ببلاغ رسالة الله.

ولم تترك السيّدة خديجةُ زوجَها بعيداً عنها، وأحاطته بدعم مستمر لا ينقطع، ومنحته الثقة الكاملة، ووفرت له المحضن الآمن المنيع (آمنت به إذْ كفر الناسُ، وصدقتني إذ كذبني الناس، وآستني بمالها إذ حرمني الناس).

وقد خصّها الله تعالى بمزيّة نادرة لا تحدث عادة سوى للأنبياء وهي أن جبريل طلب من رسول الله أن يقرئها السلام من ربها ومنه، وأن يبشّرها ببيت في الجنّة من قَصَب لا صخب فيه ولا نصب، كما في حديث الصحيحين؛ وسلام الله تعالى عليها الذي أوصله جبريل إليها، وحرص جبريل على تبليغ سلامه الشخصيّ لها يدلّ على خصوصيّة معرفتها بربّها وقربها منه، وكأنّ روحها اندمجت مع روح رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، فاستشعرت مقام القرب من جناب الله وحضرته المتعالية.

وأظنّ أن من دواعي كمال شخصيتها أن الله تعالى الله عرّفها مكانتها ومكانها وجزاءها في الآخرة ومكافأتها نصّاً في مرحلة مبكّرة من حياتها الدعوية فكانت امرأة من الجنّة تمشي على الأرض، وكانت تدرك تماماً ما يقتضيه كونها من سيّدات الجنّة الرفيعة، وضرورة الالتزام بمواصفات أهل الجنّة الذين رأوا عين اليقين.

لذلك كان رسول الله لا يكاد يرى امرأةً إلا هي، وقد أعلن حبّه لها: "إني رُزقت حبّها"، وجعل محبته لها رزقاً ساقه الله إليه، وأتاه دون سعي منه، وجعله له طُعمةً وبُلغةً وزاداً، وتقوّى بحضورها معه، وتعزَّى بتثبيتها له، وتحصينها لداره، وكفته أمر متابعة أمور بيته ليتفرّغ لرسالته ومعركته.

ولو كانت أمّنا خديجة في زماننا لأحبّت نساء أهل الثغر، وشهدت على ثباتهنّ، رضي الله عنهن أجمعين!